ليست شهيرة وحدها من افتُتنَ بجاك منذ حلّ بالحيّ، فقد كان وافدا مختلفا وغريبا، ولقلّة ما يفد الغرباء صار محطّ اهتمام الجميع بين مبالغ في التّرحيب به ومفرط في الحذر منه، أمّا هي فما فتئت تنظر إليه من نافذة صغيرة في الطّابق الثّالث، هناك حيث غرفة القيلولة التي اتّخذها جدّها أبو هلال الحدّاد، كانت النّافذة شبه سريّة، فأغلب من يسكن الحيّ لم ينتبه إلى وجودها بسبب ضمورها وصغرها، وقد صُمّمت لتمنع دخول الشّمس والضّوء، وتسرّب قليلا من الهواء، وتطلّ كعين سريّةٍ على باحة الحيّ، فتراقبُ طاحونة المكّي وحانوت العجوز فريحة الفارغ وورشة أبو هلال التي لم تعد تُفتح منذ سنوات.
بدا جاك من تلك النّافذة أشبه ببطلٍ خُرافيّ يتمظهر بجلوسه ووقوفه وتدخينه وحركاته الفاتنة، كانت زاوية مثاليّة وأسطوريّة لمشاهدته، وقد ظلّ نجمه في صعودٍ حتّى اجتمعت حولهُ عصبةٌ من الأطفال المنصرفين عن الطّفولة بالتدخين وبعض اللّحية الندية والصّوت الخشن، وخلال ذلك كان يفتح كتابا سريّا بغلافٍ جلديٍّ ويقرأ منه حكاياتٍ ساحرةٍ تجعلهم يُدمنون الجلوسَ إليه، بينما يتبادلون نظراتِ الدّهشة والإعجاب، كان حاسماً وصارماً، فكثيرًا ما يقفُ موقفَ غضب حين يحاول أحدهم أن يكسّر قانونهُ باللّجوء إليه خارج ساعة المحفل.
جاء من مكان مجهولٍ، ونزل كأنّه السيّد، في تصوّرها هبط من كوّةٍ أُغلقت بعده. وهكذا تفاجأ النّاس برجلٍ طويلٍ بلباس راعي بقر، وشعرٍ منسدلٍ وملامح حادّةٍ يُشغّل طاحونة المكّي رحمه الله، هكذا ودون تمهيد انخرطَ في الحيّ، وراح يدخّن بشراهةٍ ويتأمّل المكان وأزقّته التي تبتلع المارّين، في البداية استهجنه الجميع، لكنهم تبادلوا التحايا تدريجيا مع الرّجل الغريب، ثمّ تردّدوا على الطّاحونة بالبنّ والقمح والشّعير على عادتهم في عهد المكّي، ثمّ صاروا يصغون إلى كلامه ويعملون بتوجيهاته، كان لديه سطوة ساحر على القلوب، ولم تعد أمامه إلا عقبة العجوز فريحة التي تحدجهُ بحقد غير مفهوم، والشيخ أبو هلال الذي تجنّبه منذ البداية، ولو أنّه يحظى بقبول هذين العجوزين يصبح لديه الإجماع المطلق.