سؤالان جوهريان وفلسفيان ارتأى الكاتب الأمريكي الشهير دان براون (مواليد 22 يونيو 1964) الإجابة عنهما في روايته الأخيرة “الأَصْلُ” (Origin)، ببطولة نابغة جامعة هارفارد، روبرت لانغدون (Robert Langdon)، عالمُ الرموز وداهية نسف الألغاز والشفرات. لم يحدْ براون عن أسلوبه المشوق، الحابس للأنفاس والمستفز للأديان السماوية، والزاخر بالشفرات والمبهمات الميتافيزيقية. اختار الروائي المثير للجدل إسبانيا فضاءً خصبًا لروايته السابعة، وهذا نظرا لزخم البلد الأيبيري بالتحف الفنية والعمران العريق، وهي نفس التوابل التي تستهويه كثيرا في أعماله السردية. تجلت ثلاث مدن إسبانية في رواية “الأصل”: بلباو، برشلونة ومدريد. في رواياته الست السابقة، جرت أساسا في فضاءات “آن أروندل كاونتي” وإشبيليا (الحصن الرقمي،1998)، روما (ملائكة وشياطين، 2000)، القطب الشمالي وواشنطن (حقيقة الخديعة، 2001)، باريس ولندن (شَفرة دا فينشي، 2003)، واشنطن (الرمز المفقود، 2009)، وفلورنسا (الجحيم، 2013.
“ما أصلُ الإنسان؟ وما هو مصيره الحتمي؟“
تبدأ الرواية بزيارة عالم المعلوماتية والمستقبليات، “إدموند كِيرْشْ” (Edmond Kirsch)، إلى دَير “مونتسرات” بكتالونيا. كان في استقباله ثلاثة ممثلين لأهم ديانات سماوية: الأُسقف الإسباني “أنطونيو فالدِيسبِينو” (Antonio Valdespino)، والحاخام المجري “يهودا كُوفْس” (Yehuda Köves)، والعلامة الإماراتي “السيد أبو الفضل”. داخل المكتبة العريقة، صدم كيرش علماء الدين الثلاثة حين أخبرهم أنه توصل إلى اكتشاف علمي قد ينسف بالمعتقدات الدينية. أطلعهم على جانب مهم من اكتشافه بواسطة تصوير مسجل، فاندهشوا أيما اندهاش. حاولوا إقناعه بالعدول عن فكرته، لكن كيرش اكتفى بالسخرية من توسلاتهم. غادر الملحد كيرش الدير فرحا بفوزه على المتدينين الثلاثة.
ابتكارات كيرش الكثيرة أكسبته ثروة كبيرة، فصار مليارديرا معروفا في المعمورة. اختار كيرش مكانا غريبا للكشف عن نتائج بحوثه الوجودية، ألا هو متحف “غوغنهايم” (Guggenheim) ببلباو. زهاء مائة شخص دعاهم لحضور محاضرته المسجلة والتي ستبث على شبكة الأنترنت لاستقطاب الملايين من المتابعين. من بين المدعوين VIP، نجد روبرت لانغدون، الأستاذ السابق لإدموند كيرش بجامعة هارفارد الأمريكية. هيأ كيرش كل شيء لإنجاح إعلانه المدوي، بمساعدة “وينستون” (Winston)، الذكاء الاصطناعي الذي اخترعه بنفسه لمرافقة جهوده العلمية. كل مدعوٍ تحصل على سماعة للتواصل التفاعلي مع وينستون. قبل بدء المحاضرة عن طريق تقنيةstreaming ، التقى كيرش ولانغدون في بهو سري عجيب داخل المتحف. تكلما عن سنوات الجامعة بهارفارد والمعلوماتية والوراثة والديانات. لكم أن تتساءلوا لِمَ وقع اصطفاء كيرش على إسبانيا للإفصاح عن اكتشافه المخلخل للدوغمائية. قبل أربعين سنة، سافر أبوه “مايكل” إلى مدينة قادس الإسبانية، فتعرف على امرأة إسبانية، من عائلة فلاحية، اسمها “بالُوما كالفُو” (Paloma Calvo). عشقها وأخذها إلى شيكاغو أين ولد ابنهما “إدموند”. لكن أباه توفي بعدما دهست سيارة مجنونة دراجته ونجله لم يتجاوز السنة من العمر. في الخامسة، تركت بالوما ابنها إدموند في دار للأيتام بشيكاغو وعادت إلى بلدها، أين توفيت حين بلغ وإدموند العاشرة. غياب الأبوين أثر كثيرا على نفسيته، فانتقم علميا!
دان براون اختلق سيناريو آخر ليضفي على الرواية تعقيداتها التقليدية
بدا كيرش هزيل الجسم ولكن طاقته أبهرت الحاضرين، خاصة أستاذه السابق روبرت لانغدون. كعادته، دان براون اختلق سيناريو آخر ليضفي على الرواية تعقيداتها التقليدية، ولتشغيل ذاكرة لانغدون الصورية وحنكته في فكك الألغاز ومجابهة الأخطار. لم تمض دقائق على محاضرة كيرش، حتى شاهد العالم اغتياله المباشر رميا بالرصاص. سادت فوضى عارمة في قاعة متحف غوغنهايم، ولانغدون أصيب بالذهول. تساءلت
“أمبرا فيدال”، مديرة المتحف، عن كيفية إدخال سلاح ناري بالرغم من مرور جميع المدعوين عبر جهاز السكانير! (Ambra Vidal)
هرول لانغدون مسرعا إلى منصة سقوط صديقه كيرش، والذي لفظ أنفاسه في حينه. لكن الفاجعة التي ألمت بصاحبه لم تمنع لانغدون من سرقة الهاتف الذكي الفيروزي لكيرش، بعيدا عن أعين الشرطة الملكية التي أمَّنت شخصية أمبرا فيدال، خطيبة خوليان، ولي العهد الإسباني. طمع لانغدون في الاستحواذ على التسجيل لإعادة بثه على الأنترنيت في أقرب وقت ممكن. بيد أنه عليه إيجاد كلمة السر ذات السبعة والأربعين حرفا! مهمة جد مستحيلة في أول وهلة. إلا أن أمبرا فيدال أخبرت روبرت لانغدون أن كلمة السر هي مجرد بيت شعري! أمبرا وروبرت هربا من المتحف وغادرا بلباو على متن الطائرة الخاصة لكيرش، باتجاه مدينة برشلونة، حيث شقة كيرش.
في غضون ذلك، قاتل كيرش نجح في الفرار من المتحف بأعجوبة “براونية”. ونستون، جهاز الذكاء الاصطناعي، أفاد لانغدون أن المجرم اسمه ” لويس أفيلا” (Luis Ávila)، وهو أميرال متقاعد، عاقر الخمور بعدما فقد قبل خمس سنوات زوجته وابنه في انفجار إرهابي داخل كنيسة بإشبيلية. حاول الانتحار بمسدسه من ذي قبل، لكنه فشل في ذلك ودخل المستشفى مصابا. كان أفيلا يحمل في راحة يده وشما يرمز إلى حقبة الدكتاتوري فرانكو. أدخل أفيلا خلسة سلاحا ناريا صنع بفضل طباعة ثلاثية الأبعاد، من مواد بلاستيكية عالية الجودة لا يمكن رصدها باستخدام أجهزة الكشف. نفذ أفيلا مهمة اغتيال كيرش بأمر من “المسير المجهول” فور تلقيه مبلغ مالي معتبر عبر الأنترنت من جهة مجهولة ادعت محاربة الإلحاد. أفيلا كان قد اندمج في طائفة معادية للفاتيكان، عقب شفائه من جرح محاولة الانتحار. وهو يعود أدراجه إلى مدريد مبتهجا بتصفية كيرش، تلقى مكالمة هاتفية مجهولة المصدر تأمره بالذهاب إلى برشلونة للتخلص من روبرت لانغدون وأمبرا فيدال، لطمس سر اكتشاف كيرش إلى الأبد. إبان الليلة ذاتها، قُتل الحاخام “يهودا كوفس” بشوارع بودابست المجرية، أما العلامة السيد أبو الفضل فقد مات عطشا في صحراء الشارقة الإماراتية في ظروف اكتنفتها الكثبان الرملية. شبكة الأنترنت عرفت تنامي رهيب للإشاعات ونظريات المؤامرات. أصابع الاتهام وجهت صوب الناجي الوحيد من تداعيات حادثة متحف بلباو: الأسقف أنطونيو فالديسبينو، المستشار الكاثوليكي للعاهل الإسباني العاجز حركيا.
تنبأ كيرش بأن الجنس البشري سيختفي بحلول سنة 2050
في مطار برشلونة، استقلا لانغدون وفيدال سيارة كيرش من صنف “تيسلا” (Tesla)، الذاتية القيادة، والتي أوصلتهما إلى منزل كيرش. داخل الشقة، اصطدما بغابة من الكتب العلمية والأدبية واللاهوتية. لم يعثرا على كتاب الأشعار الذي يحتوي على البيت الشعري ذي السبعة والأربعين حرفا. كاد أن يخيب أملهما، لو لا عثور لانغدون على بطاقة تحمل عنوان كنيسة ” العائلة المقدسة”، أين أودع كيرش مجلد الأعمال الشاملة للشاعر البريطاني وليام بلايك (William Blake, 1757-1827) ليعرض مفتوحا عند الصفحتين 163 و164. اغتبط لانغدون والحسناء أمبرا فيدال بذلك، واستعانا بحوامة الحرس الملكي لبلوغ الكنيسة في نفس الليلة. بعد عناء كبير، استطاع لانغدون من إيجاد البيت الشعري الذي يكَون كلمات السر: (the dark religions are departed et sweet science reigns)
تأزم الوضع حين ولج أفيلا في الكنيسة وحاول قتل الأمريكي لانغدون والآنسة الإسبانية فيدال. لسوء حظ أفيلا، فقد هوى من علو شامخ أرداه قتيلا! كما أضاعت فيدال هاتف كيرش الفيروزي، مما صعّب من مهمة التواصل مع ونستون، ورهن حظوظ إعادة بث محاضرة كيرش المسجلة. اهتدى لانغدون إلى فكرة تحديد مكان حاسوب الذكاء الاصطناعي ونستون لإدخال كلمات السر تلك.” ونستون” كان متمركزا داخل كنيسة “طوري خيرونا”، والتي اشتراها كيرش من ذي قبل ليحولها إلى مخبر إلكتروني جد متطور، نكاية في المقدسات الكاثوليكية.
استعان لانغدون بجهاز كمبيوتر قديم جدا (بعد ضياع هاتف كيرش الذكي) لإدخال كلمات السر بنجاح على الساعة الثالثة صباحا بتوقيت برشلونة. مقتل كيرش عبر المباشر رفع نسبة المشاهدة بواسطة تقنية streaming إلى أكثر من مائتي مليون متابع.
لا ريب أن القارئ يتساءل عن ماهية اكتشاف إدموند كيرش، والذي من أجل إماطة اللثام عن فحواه خاطر البطل روبرت لانغدون بحياته في كتالونيا البعيدة. تذكروا السؤال الأول: “ما أصلُ الإنسان؟” حسب نظرية كيرش التي أسهب في تفسيرها بالاستعانة بالمحاكاة الحاسوبية، بدأت الحياة من العدم ووحدها القوانين الفزيائية كانت تُسيِّر تطور الكائنات الحية (الداروينية؟) والكون من أجل غاية واحدة: انتشار الطاقة في أرجاء الكون! طبعا، دان براون لم يخبرنا من وضع تلك القوانين الفيزيائية!
السؤال الثاني: “ما هو المصير الحتمي للبشرية؟” دائما بواسطة متاهات معلوماتية غير موثقة تجريبيا، تنبأ كيرش بأن الجنس البشري سيختفي بحلول سنة 2050، وهذا بسبب كائنات روبوتيك ذكية اسمها Technium ، بمقدورها التهام الإنسان! لم يشأ براون إفادتنا عمليا كيف سيحصل فناء البشر على يد مخلوقات “التيكنيوم”! ترك مجال تخيل ذلك للقارئ الذكي. رواية بحجم ستمائة صفحة لم تكن كافية على ما يبدو!
رواية “الأصل” أثارت زوبعة في إسبانيا
رواية ” الأصل” أثارت زوبعة في إسبانيا، إذ زعم بروان أن الأسقف فالديسبينو عاش قصة حب صورية مع العاهل المريض طيلة عقود من الزمن! من جهة أخرى، خوليان، قرر الزواج من العاقرة أمبرا فيدال لإنهاء أسطورة السلالة الملكية. افتراء أغضب قصر مدريد. في النهاية، توفي العاهل والأسقف في نفس اليوم، قرب موقع تاريخي له صلة بحكم الجنرال فرانكو.
المفاجأة الوحيدة المثير للانتباه في رواية “الأصلُ”، هو جهاز الذكاء الاصطناعي ذاته، “ونستون”، الذي اتضح أنه صاحب موقع المؤامرات على شبكة الأنترنت. وهو الذي دبر مكيدة اغتيال صانعه إدموند كيرش، لتخليصه من آلام سرطان البنكرياس! ونستون هو نفسه “المسير المجهول” الذي هاتف أمبرا فيدال بمتحف غوغنهايم ببلباو لطلب إضافة القاتل المستأجر لويس أفيلا إلى قائمة المدعوين. كما ضلع ونستون في إصدار أمر إعدام الحاخام المجري والداعية الإماراتي.
تمخض “جبل مونتسرات” فأرةَ كمبيوتر بلا كابل! أتوقع سخرية رجال الدين من فشل براون في إقناع البشرية ببطلان المعتقدات الدينية بمجرد رواية دسمة كلها محاكاة حاسوبية لا أساس لها من التجريب العلمي!
بقلم: بلقاسم مغزوشن / روائي جزائري