الموس البوسعادي.. حامي التراث والثقافة

الأكثر قراءة

افتتاح ليالي أولاد جلال للمديح والإنشاد بمناسبة الشهر الفضيل
إطلاق حاضنة المدرسة العليا للفنون الجميلة "آرتي"
وهران تحتضن ندوة حول "مسرح علولة والبحث العلمي"
فتح باب الترشح للطبعة ال8 لجائزة "كاكي الذهبي" للكتابة الدرامية
افتتاح الطبعة ال 14 للمهرجان الثقافي الوطني للعيساوة
فيلم يكشف استخدام فرنسا أسلحة كيميائية في الجزائر
عرض مسرحية "الخيط الأحمر" بقصر الثقافة مفدي زكرياء
القصبة ذاكرة وطنية حية تحتفي بتاريخها
البليدة: فتح المسرح البلدي "محمد توري" في حلة جديدة
تقديم العدد الأول لمجلة "سينماتيك" بالجزائر العاصمة

عبد القادر كشيدة، شاعر، قاص وصحفي مستقل

” كنت أحتاج الخبرة كي أصير حدادا ولم أزل محتاجا لمجرد فرصة”

“كنا في المنزل، ولم يبقى أمامنا سوى ساعتان قبل أن تبدأ رحلتي في تعلم حرفة الحدادة. طلب مني والدي أنذاك أن اشحذ همتي قبل أن أبد في نحت السكين (الموس) الأول لي، طلب مني عندها أن أحمل المطرقة الكبيرة وأبدا في ضرب قضيبا من الحديد بعد أن أذابه. تقدم (الوالد) مني يومها وأعانني على حملها بعدما فشلت في ذلك. ضرب المطرقة بقوة كافية فتطاير الشرر وكذلك ضربت فهي النار تحكي قصة الجلد والقدرة، شحذ السكين بكثير من البراعة وكذلك فعلت فهي الحدة تصير الكتلة جزيئات، وما هي إلا سويعات قليلات، حتى انتهى الأمر.. زينا قبضته بالنحاس فصارت ذهبية وأعددنا غمده فصار كائنا من عالم آخر.

20 عامًا وأنا جالس إلى الزاوية ذاتها. استبدلت “الفرن القديم” بالآخر الحديث. وما زلت اصقل السكاكين”.

——

في دكاكين الصناع والحرفين، زاوية صغيرة يجلس فيها أحد الحدادين، يطلّون على ساحة فسيحة قد شملت بعضا من الزخرفة ونافورة مياه تعطي تزاوجا غريبا بين الحقبتين، تشملك بكل رهبة صوت الضرب على الحديد وتثيرك رائحة الصديد من بعيد لتبعث في نفسك الشعور بغرابة ترجعك إلى عالم الأسلاف عندما تتجلى أمامك صور القدماء على حائط الرسام علي البوسعادي الذي يشغل حيزا من مجمل الدكاكين هناك في سوق المنتجات الحرفية وسط مدينة بوسعادة الجميلة وقد شغل نفسه أيضا بإسترجاع شيئا من الذاكرة من خلال رسوماته الحية، وترجعك للحياة تأملات غريبة في وجوه بعض السياح الأجانب والمحليين وهم يتبضعون.

كانت السكين (الموس) المخرجة مزيجا من عوالم مختلفة يجب أن تكون ضمن ممتلكات الشاري الإفرنجي وليس الإفرنجي فقط، ومن معانٍ يجب أن تكون ضمن ملكات الصانع العربي وليس البوسعادي فقط، ومن إضافات جمالية فنية تجعل المنتج في غاية الإتقان، لا ملح ناقص فيه ولا سكر زائدًا عليه، يحمل التناقضات في تناسق عجيب.

التشكيل المتقن النهائي للمعادن، يحتاج إلى حزمة كاملة من الثقافة العربية لتكتمل صورة الرجل البوسعادي مع كثير من الأصالة وبعضا من المروءة، السكين (الموس)  البوسعادية المتقنة تحتاج في الأصل إلى الرجل الذي يلاءمها  كي تبدو أخاذة ذات بعد فني أصيل، وتكشف جانبا مثيرا من شخصية المحارب الذي يواجه الموت في سبيل الدفاع عن ذاته العربية الأصيلة ومكتسباته العتيدة كالوطن والمراة والملاذ….المادي والمعنوي للثقافة وجهان لعملة واحدة.

لا رفعة لفضيلة المادي على اللغوي ، ولا المعنوي على المادي، هما صنفان في عالم الحرفة الحقيقية، يندمجان في عالم التعبير عن الذات الإنسانية وتكتمل الرؤية فتفهم المعنى الكامل في تجليات الفنان الفرنسي نصر الدين ديني، ذلك الرجل الذي اندمج بالكامل مع نورانيات الثقافة العربية البوسعادية الصحراوية…اندمج ليعبر عن سمو الذات المنتصرة على الطبيعة لتعدل وجهات الإنطلاق نحو عالم السعادة وتعطي توازنات عدة في الحياة.

صدام مستمر

يمرر هؤلاء الجلبة والمستوردين لذلك الصانع مواد النحت التي باتت غالية جدا ومصاريف الصناع لا تتحمل هذه النفقات مع عزوف الشراة عن تملك ما يصنعون، (ليمرون)عليها ويشكلون من الأواني والوسائل ما يشتهون،  لتصير جاهزة للإستعمال.

المزود هو الذي يجمع المواد ويأتي به إلى الحداد، كي ينتج أجود أنواع المنحوتات ،السكين (الموس) البوسعادي حامي التراث يتنقل بين عوالم الحضارة ليخيط ثوب الثقافة المحلية ويعبر عن الذات العربية بمزيد من المروءة والأصالة .

كصانع حر وعتيد، كان يدافع عن منتجه (الموس البوسعادي) بإندفاع وتهور، ويجادل الشراة بلا إنحسار، إلى أن أدرك الوصل النهائي بتفوقه على كل من يواجهه:

وثمة إحتكاك دائم بين الطرفين، كلٌّ يدعي ثقة ببراعة المنتج النهائي، والصانع يُثقل على الطرفين معًا وقد بدى السعر بعيدا عن المنتهى.

المزودون يرون أن لأصالة المادة باعها الأولى. بينما يرى الصناع أن للحرفة المتقنة ذلك الباع. كان جدلاً منطقيا، ولم يكن (لــــ)يحسمه سوى شاري فطن، يريد سلعة رفيعة لثمن بخس، وبدون مناقشات.

إن السكين (الموس)  البوسعادي معلم ثقافي زاخر بالمعاني، يحافظ على مرور الثقافة ببساطة إلى الأجيال التالية، محافظًا على المسافات الحضارية بينها لكيلا تصطدم، وإن حدث الإصطدام فعلا في الآونة الأخيرة وبدى أنه عبارة عن سيارة تسير عكس السير في ظل تعري الجذور القديمة وهيمنة التكنولوجيا على الحياة المادية والمعنوية، ولا ينقذه سوى اعتراف أجنبي بمدى سطوته على تلك الثقافة وقد تكون اليونسكو الوجهة الأخيرة.

الحداد النحات، مخطِّط الثقافة ومهندسها، يحفظ التراث واتجاه سير الحضارة، ليتشكل للأصالة مبنى عملاقا في وسط تجاذبات التاريخ.

الإشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

0
يرجى التعليق.x
()
x