قلت وكررت أكثر من مرة في جلسات مهنية وشخصية، انني ربحت الكثير ثقافيا في باريس التي زودتني بمعارف في مختلف المجالات. باريس التي دخلت مسارحها ومتاحفها وشاهد ت فيها أجمل الأفلام وحضرت في معاهدها الجامعية وفي مكتباتها العشرات من المحاضرات والندوات واللقاءات الفكرية والأدبية والإعلامية، هي نفسها باريس التي حرمتني من الاستمرار في دخول المسرح الوطني (مسرح محي الدين بتشارزي اليوم والذي حاورته في بيته ببولوغين عام 1983).
باريس التي اسعدتني كما ذكرت، هي نفسها باريس التي احزنتني بسبب عدم حضوري تألق مسرحيين شبان أبدعوا في غيابي ولو بدرجة أقل بكثير من درجة “وحوش “الخشبة الجزائرية الذين رحلوا بعد أن حاورت معظمهم وكتبت عن مسرحياتهم وربطت علاقات شخصية مع بعضهم الآخر. محمد بن قطاف، مصطفى قزدرلي، مصطفى كاتب، كويرات، كلثوم، رويشد، علالو، علال المحب، كاكي، بن صابر، سي الجيلالي، محمد أدار، سيراط، بلقايد، صونيا، فاطمة حليلو، مجوبي، علولة، بوزرار، وفضيلة حشماوي …أسماء بارزة من بين العشرات الأخرين الذين شكلوا أجمل أيام حياتي المهنية في الثمانينيات، والذين اعتذر لهم لعدم ذكر هم كلهم بسبب طبيعة المقام الصحفي الذي لا يسمح بذلك.
كنت محظوظا الهيا ووجوديا منذ أن ولدتني أمي، مارست وما زلت المهنة التي أتنفسها، وكتبت وسأبقى أكتب في الاختصاص الذي يسعد صاحبه في نظري أكثر مما يسعد به زملاء كتبوا ومازالوا يكتبون في الرياضة والسياسة والاقتصاد والاجتماع، تخصصي هو الذي قادني هذه المرة إلى باب الزوار لحضور جنازة لم تكن ككل الجنائز التي حضرتها على الصعيدين الشخصي والمهني على السواء كان الممثل والمخرج الميت الذي سيبقى حيا في عقول وقلوب الملايين من الجزائريين الذين عرفوه أكثر عبر شاشة التلفزيون من خلال أدوار لم تكن في نظري في مستوى طاقته التمثيلية الني لم تجد البيئة الفنية اللازمة لكي تنفجر كما تنفجر قنبلة انشطارية.
حضرت جنازة الفقيد أحمد بن عيسى وأنا في قمة الأسى والسعادة في الوقت نفسه، ولو أن الأسى هو الذي سيطر على وجداني وانتصر في معركة عاطفية غير متكافئة، حدث ذلك، لأن رحيل بن عيسى جاء قبل الأوان، والموهبة التي حباها بها الله لم تستغل كما يجب في محيط ثقافي وفني وسياسي لا يسمح بإبراز كل قدرات فنان مبدع مثله كما أشار الى ذلك الروائي الكبير ياسمينة خضرا في تكريم فيسبوكي بدي
حزنت أولا لرحيل قامة فنية واخلاقية واجتماعية انسجمت تاريخيا مع توجهها استنادا لتقليل الذي اعرفه عن منجزه الإبداعي بسبب اقامتي في باريس كما اسلفت الذكر حزنت لأنني لم أعرف الفقيد عن قرب شخصيا وفنيا ولم أحاوره كما فعلت مع كبار مثله، وحزنت لأنني لا أستطيع أن أكتب مقالا تكريميا يليق به بسبب عدم مشاهدتي لمعظم أعماله على النحو الذي ينسجم مع أخلاق مهنية لن احيد عنها حتى أخر نفس من حياتي.
ما يمكن قوله اليوم استنادا لأدوار قام بها الفقيد، يتلخص في ايماني بمقاربة فنية تسمح لي بمقارنته بكبار الممثلين الجزائريين من امثال بن قطاف ومجوبي وعلولة وسيراط واقومي، ويكفي التذكير بنبرة صوته ونظرته وبتمثيله المحسوب لكل الأدوار حتى أؤكد انه كان من طراز الممثلين الكبار الذين يؤدون الأدوار التي تشبههم في الحياة ويؤمنون بجدواها وبمغزاها وبأبعادها.
سعدت في جنازة الفقيد الكبير أحمد بن عيسى لأنني ترحمت وواسيت ابنه عماد الذي رأيته يقرأ الفاتحة على روح والده بإيمان كبير ويبكي باحتشام لافت، سعدت في جنازة الفقيد الكبير أحمد بن عيسى وولدت من جديد، لأنني عشت جوا عرفته قبل حوالي أربعين عاما حينما كنت التقي صناع الفرجة المسرحية من أمثال الذين ذكرتهم. من بين كل هؤلاء، مازال المخرج الكبير زياني شريف عياد حيا يرزق إلى جانب الممثل المشاغب عبد الحميد رابية الذي كان أول من رحب بي قبل أن ينتبه لصلعتي زياني الذي قال لي أنه لم يعد شابا كما كتبت عنه في مقدمة حواري معه وهو يكتسب الإخراج بموهبة أكدت قدرته الفنية لاحقا من خلال مسرحيات “حافلة تسير” و”العيطة “والشهداء يعودون هذا الاسبوع “.
سعدت في جنازة الفقيد الكبير بن عيسى، لأنني التقيت الممثل الكبير حسان كشاش والمغني الصادق جمعاوي والزميل احميدة العياشي والمسرحي مراد سنوسي الذي كتبت عنه وهو في بداية تألقه وتنبأت بنجاحه وهو اليوم يدير المسرح الجهوي لوهران باقتدار كبير. سعدت أيضا بمقابلة عمر فطموش مسرحي من طراز فريد وسبق أن كتبت عنه حينما كان شابا ايضا وكنت شابا ايضا.
سعدت في جنازة الفقيد بن عيسى لأنني ترحمت على روح الكبيرة شافية بوذراع التي دفنت على بعد متر من قبر ه. سعدت لأنني شاهدت وجوه ممثلين عملوا مع الفقيد بن عيسى، وكلهم شهدوا على بصمته التي ستبقى تنير دربهم. من بينهم الممثل الكبير اذكر نبيل عسلي وجريو الممثل الموهوب. اعتذر لممثلين أخرين لا اذكرهم بالاسم و شاهدتهم في التلفزيون وأنا في باريس.
كدت ان أرتكب جريمة في الاخير بعدم ذكري الممثل الكبير عبد النور شلوش الذي حضر جنبي جنازة الفقيد بن عيسى، وهو الأخر، لم يجد البيئة الثقافية التي تليق بمقامه وقامته، ولا غرابة اذا قرأنا الحسرة في عيونه.
رحم الله احمد بن عيسى، وألهم ذويه الصبر والسلوان
الكاتب والإعلامي: بوعلام رمضاني