شاء من شاء، وكره من كره، الراحل عبد العزيز بوباكير كان كبيرا حيا ، وسيكبر في القبر مع مرور الأيام والاعوام والعقود والقرون، كما كبر أمثاله ممن ابدعوا بشخصية عكست زادا لا يشبه أي زاد في مجال معرفي أو أدبي أو فني ما.
إنها الشخصية النادرة التي ينفرد بها صاحبها منذ البداية وحتى النهاية بفضل ترسانة وتوابل حضور مدجج بأسلحة إبداعية تقصف أرضا وجوا كافرة بالحدود الأفقية والعمودية، هكذا كان حال فقيد الجزائر والعرب والعجم الذي رحل كما عاش بعيدا عن أجواء الابهة الشكلية تاركا تاريخ ورصيد ابهة ينطق بها محتوى مؤلفاته وروحه وكاريزماه الناطقة بتجليات صامتة.
بوباكير الذي عرفته رئيس تحرير صحيفة “الخبر الاسبوعي “حينما كنت اراسلها من باريس، والذي بقيت اتواصل معه هاتفيا بعد ان فشلت في زيارته رغم عشرات المحاولات، لم يكن صديقي كما راح الكثيرون ينصبون أنفسهم كذلك بعد أن مات بعيدا عنهم جسديا وفكريا واخلاقيا واجتماعيا.
لست من الذين يقدسون الأشخاص ولست من أصحاب الولاءات العمياء كما لست من سجناء الأيديولوجيات القاتلة والهويات الضيقة والشوفينية والمشاعر الجهوية حتى أتحول اليوم إلى مطبل في عرس تأبيني أريده أن يتجاوز تأبينية شبه رسمية لم تكن في مستوى الراحل.
بوباكير انفرد بشخصية تذكرنا براحلين سبقوه بشخصيات متميزة لا تغير منها النسب المتفاوتة التي يمكن ان تفرق بين ممثليها والذين يصعب ذكرهم كلهم، ويصعب أيضا انصافهم في الوقت نفسه تحت وطأة الذاتية اللعينة التي تلاحقنا في كل الأحوال مهما ادعينا من موضوعية تبقى وهية بطبيعتها.
بوباكير نافس شخصين بخصوصيته المزاجية والسيكولوجية والثقافية والابداعية بدرجات متفاوتة على هذا المستوى أو ذاك، يحضرني الطاهر وطار الذي انفرد بمزاج خاص جدا مثله مثل الطاهر بن عائشة.
وطار كان صاحب خرجات غريبة اساءت للكثيرين حسب البعض، لكنها الخرجات التي لا تسمح لأحد أن يقفز على تاريخ رجل ابدع بصدق يتماشى مع قناعات فكرية عاش يروج لها ويبدع بها، والشيء نفسه، يمكن أن يقال عن الطاهر بن عائشة الذي غطس في بحر صحراء أرادها ذاكرة حضارية وثقافية وليست رمز جوع وعطش فقط.
الطاهر إن عاشا بشخصية تمزج بين الجدية والمزح وبين الخصوصية في الشكل وفي المضمون، وقال الطاهر وطار رفقة الشاعر الكبير عمر ازراج لحظة قطعهما ربوة تؤدي إلى قبر كارل ماركس :”لقد اتعبتنا حيا وميتا “، أما الطاهر بن عائشة فقال في تومبكتو حسب أحد الرواة و-العهدة على الراوي- امام مسجد لم يكن امامه ساعة صلاة الجمعة الا معزة يتيمة: “يبدو أنك شيوعية “.
المبدع الذي يتميز عن الآخرين، يتميز فقط بخصوصية كتابته، ولكنه يتميز أيضا بصفات تعد لصيقة ديالتيكيا بهويته المتفردة. خلافا للمبدعين الفاقدين للكاريزما الساحرة وللمزاج اللافت، كان بوباكير ممثلهما بامتياز بجسده النحيف الذي يفرض الهيبة المعنوية، وبصمته الناطق بحالات ومواقف وتعابير اكثر مما تنطق به شخصيات ثرثارة منفرة ومقززة ومنفرة.
كان بوباكير صاحب صوت جهوري يخرج من جسم ضئيل وضعيف، وصاحب أفكار نظرية شامخة عانق بها عالم كان يظنه مرادفا للخلاص العدل والحرية، وهو العالم الذي ارداه قتيلا في جبهة الإيديولوجية التي اضحت دينا غلى حد تعبير ادغار موران بعد أن ادعى مناضلوها أن الدين دودة زائدة! وربما ذلك ما جعله عبثيا في نهاية المطاف.
أخيرا وليس آخرا، بوباكير ورغم انه كان متهما كمعظم الجواجلة بجهوية مقيتة باطلة، استطاع أن يقهر كل الايديولوجيات حيا وميتا بكتب كلها معرفة نافعة وناجعة بأسلوب يدخل عقل وقلب القارئ العادي وغير العادي.
في تأبينيه عكست الروح الجهوية بشكل أو بأخر ، جمع بوباكير مثقفي كل التيارات وقهر وقتل الصراع الإيديولوجي المجاني ميتا. حضرت التأبينية، وجلست جنب اليساري واليسارية وقبالة الوطني والقومي والعلماني غير اليساري بالضرورة.
لم يسبق أحد من مثقفي الجزائر أن ساهم في تكوين جيل اعلامي يفتخر بدروس ويكتب بأخلاق أستاذهم الذي قضى حباته يتنفس الكلمة ويؤمن بها. لقد كانت الهه!
بوعلام رمضاني