النقــد المسرحي يعتبر نقدا فنيّا، من أولى مهامه تمحيص العمل الفني شكلا ومضمونا، من منطلق النص إلى الفضاء الركحي وتأثيثه، إلى هندسة الممثل حتى الشق التقني، والنقد يعدّ نظاما ذا مرجعية ونوعا من القراءة التمحيصية والتفاعلية للعمل الفني، هو في منظومته الكاملة طرح إبداعي مؤسّس على سلسلة من الأسس التي تتكئ بدورها على لفيف من الأسئلة الجادّة وغالبا تأتي مؤرّقة بخاصّة إذا ما غاصت بشكل أوسع في العمل المسرحي.
النقد بذلك يقوم على ثالوث الماضي، الحاضر والمستقبل من حيث استقراء ومساءلة النص، والمرجع والبعد الإبداعي، حيث أن النقد المسرحي في علاقته الجادّة مع النص الدرامي يعكس العديد من الأسئلة ذات العلاقة الوثيقة بطبيعة القراءة النقدية.
هذا، وقد عرف ولا يزال النقد المسرحي جدلا واسعا بحكم العديد من الأسئلة التي يطرحها جموع النقّاد والباحثين منذ البوادر والإرهاصات الأولى للنقد الغربي مرورا بكمّ التيارات التي شغلت ولا تزال ساحة المنجز الإبداعي والنقد.
لقد طرحت الكثير من التحوّلات على النقد المسرحي من حيث الأسئلة والأدوات الإجرائية بخاصة فيما يتعلّق بالمصطلح الذي يعرف في حدّ ذاته بعض الفوضى، فالنقد المسرحي يتعلّق في الأساس بالتحولات والراهن، والتطو السوسيوثقافي الذي يحكم الناقد، من حيث توافر الوعي والإلمام بكلّ المستجدّات ذات العلاقة بالمعرفة والممارسة في تحليل النص وتقصّي الظاهرة المسرحية الغربية والعربية على حدّ السواء.
وهذا ما يثير ما يتخبّط فيه الفكر النقدي، حيث على النقد أن يتسّم بنوع من الخصوصية العالمية ، دون الاقتصار على بعد إقليمي أو رقعة جغرافية معيّنة، والممارسة النقدية في الأساس ذات العلاقة المباشرة والحضور من زاويته الواقعية، مع استحضار المكوّن السياسي والحضاري والاجتماعي، لأن ذلكم الترابط هو وحده من يضعنا ضمن حلقة الإستفهامات والأسئلة الجادّة.
لنلمس في الأساس ذلكم التحوّل النوعي ذا العلاقة المباشرة بالتراكمات، الأمر الذي يسمح إلى النهل من الفكر النقدي الغربيّ الذي يثير ذائقة النقد العربيّ ، الذي بدأ في التبلور داخل حلقة الاتجاهات والتيارات متحرّرا من الدائرة الضيقة التي يفرضها الراهن السياسي والفلسفي والاجتماعي.
وفي السعي الحثيث من طرف العديد من النقاد في محاولة تحديد المفاهيم ومقاربة الأسئلة الضرورية، فكلّ ناقد لابدّ أن يعي أنه بصدد تحديد أدواته المعرفية التي لها علاقة مباشرة بكل ما حدث في الماضي وما يحدث حاضرا.
والخطاب المسرحي يتطلّب إتّباع مسار الحداثة مع الأخذ بعين الاعتبار الحاضر وكلّ تحوّلاته، فكلّ نظام أو نسيج اجتماعي مرتبط بذاكرة ووعي تتوازى والزمن الذي يستدعي قواعد معيّنة لتكون هي المنطلق والأساس دونما استهلاك سلبي للعملية النقدية في تعاملها والمنجز الإبداعي المسرحي بكل ما يحمله من رهانات وآفاق، لنرقى إلى مستوى رفيع من النقد البنّاء والهادف والذي يحمل بين طيّاته الكثير من الإجراءات والتحديات دونما تبعيّة أو مراقبة، فتلكم العملية النقدية في الأساس مشروع حضاري وثقافي وإبداعي لابدّ أن يتوازى مع الكثير من الوعي والنضج والكفاءة المعرفية تكريسا لإبداع جادّ له ارتباط وثيق والإنسان ذا الحضور الملفت على صعيد معرفيّ وحضاريّ وقوميّ.
والنقد المسرحيّ مرتبط كما أسلفنا بتيّار الإنفتاح ومواكبة الرهانات الحاصلة التي لابدّ أن يكون لها التأثير المنتظر على مستوى الذات وجوهرها بخاصة إذا توافر فيها العنصر الإبداعيّ، مع التعدّد على مستوى التحولات والإختلافات، فمهمّة الناقد الأساسية تكمن في الجرعة العالية من الوعي والفكر في ضرورة قراءة الآخر، والنّهل من التراث الغربي ومرجعياته لاستحضار جسر من الحوار المعرفي والنقديّ في مواكبته شتى التحولات ضمن البنية المعاصرة في وعيها الإنسانيّ، في مساءلة الأشكال الموضوعية برؤية نقدية تستند على التواصل الإيجابي مع الآخر.
والامتداد الحاصل على الصعيد الثقافي والفني وحده من يرفع الرهانات ووحده الحامل لشتى التأثيرات، مع استحضار الذات الواعية التي تحتفي بكل المؤثرات مع التحرّر من كل ما سلبيّ على صعيد الفكر، مع الاحتفاء بالهوية والانتماء من خلال إعادتنا ترتيب بيت المصطلحات النقدية الذي يعرف الكثير من الفوضى، فحين معرفتنا بذواتنا وهويتنا وما يحدث في الضفة الأخرى حينها أمكننا التأسيس لقاعدة من المدارك والفهم الإيجابي للمنظومة النقدية والمعرفية والإبداعية.
من هنا تتولّد خاصية التأثر والتأثير، الذي تفرض بشكل أو بآخر الممارسة والمقاربة والتمحيص مع ملامسة شتى الرهانات التي تمنح التجارب النقدية الكثير من المرونة وتستدعي التجديد في تفكيكنا للواقع وفي انفتاحنا على الآليات والمرجعيات بشكل موضوعيّ مؤسّس على معرفة جادّة
صفوة القول، أن المسرح يبقى إبداعا إنسانيا محكوما بالوعي والأسلوب في مجاراة المستجدّات ، بحكم علاقته بالمتلقّي في تحقيق الأثر، وهو فعل معرفيّ يجسّد العديد من الرؤى في تصدّر العملية الإبداعية من خلال تنوع التجارب المسرحية التي تبقى ديمومتها مرتبطة بمدى قدرة الناقد على التحليل والتفسير والتطوير المنهجي والإجرائي فيما يتوافق وخريطة الإبداع في شتى تفاعلاتها مع الآني، بخاصة في مواكبتها للتطور الرهيب الذي يشهده العالم من حيث تنوّع الأساليب على مستوى الإبداع.
عباسية مدوني