قصة العفيفة _ الجزء الأول

الأكثر قراءة

افتتاح ليالي أولاد جلال للمديح والإنشاد بمناسبة الشهر الفضيل
إطلاق حاضنة المدرسة العليا للفنون الجميلة "آرتي"
وهران تحتضن ندوة حول "مسرح علولة والبحث العلمي"
فتح باب الترشح للطبعة ال8 لجائزة "كاكي الذهبي" للكتابة الدرامية
افتتاح الطبعة ال 14 للمهرجان الثقافي الوطني للعيساوة
فيلم يكشف استخدام فرنسا أسلحة كيميائية في الجزائر
عرض مسرحية "الخيط الأحمر" بقصر الثقافة مفدي زكرياء
القصبة ذاكرة وطنية حية تحتفي بتاريخها
البليدة: فتح المسرح البلدي "محمد توري" في حلة جديدة
تقديم العدد الأول لمجلة "سينماتيك" بالجزائر العاصمة

كانت كل ليلة تعود مرهقة وتخفي بين ثنايا معطفها بقايا من الأكل بعد انتهاء استعراضها الراقص لتطعم والدتها المريضة ووالدها العاجز، لا أحد كان يدري ما كانت تشتغله تلك الفتاة الجميلة ذات الملامح الطفولية البريئة، كل ما كانوا يعلمونه أنها كانت تعود في جنح الليل في وقت متأخر جدا وهي تستقل سيارة أجرة توصلها حتى باب بيتهم المهترئ الذي كان أقرب إلى القبو أكثر منه إلى بيت.

في النهار كانت تسهر على رعاية والديها وتلبي طلباتهم وتنظف الغرفة وتغسل الثياب وتقوم بشؤون البيت كأي فتاة، وفي آخر النهار تخرج متدثرة في معطفها الطويل شتاءا وملاءتها السوداء صيفا.

لم يكن أحد في الحي يشك في أي شيء ولا في خلق الفتاة الشابة، فهي كانت بارة بوالديها ومحسنة إلى جيرانها، عندما كانت تزورها جارتها العجوز “أم البخت”، كانت تراها تنظف البيت وتطعم والدها العجوز المقعد، وتساعد والدتها المسنة والمريضة في تناول الدواء، لم يكن ينقصها شيء، فكلمة الحمد والشكر الله دائما يلهج بها لسانها ولا تفوت وقتا للولوج إلى الزاوية التي كانت تنام فيها لتخصص وقتا للصلاة والدعاء، وحين كانت تعود في الليل المتأخر تمسح المساحيق عن وجهها وتخلع معطفها وثياب الرقص وترتدي ثياب الصلاة، حيث كانت تقوم وتتوضأ وتقف بين يدي ربها خاشعة ساجدة تصلي ما فاتها من أوقات، تتقرب فيها إلى الله وتدعوه آن يفرج همها ويحفظ لها والديها.

كانت لهذه الفتاة أخت تزوجت رجلا ثريا، اوسعه تجارته وكثرت زياراته للبقاع المقدسة هو وزوجته التي كانت نادرا ما تأتي لتعيل والدتها حاملة بعض الحلوى، وبعد سنوات عديدة انقطع مجيئها وقلت زيارتها لوالديه، لم تكن شقيقتها التي تحملت عبئ رعاية والديها تشكوا همها إلا لجارتها وصديقة عمرها “أم صاموئيل” المسيحية والتي برغم فارق السن بينهما كانتا كالشقيقتين لا تفترقان، لكن حتى تلك المرأة لم تكن تعلم إلى أين كانت تذهب الفتاة حين تميل الشمس للمغيب حين تطرق بابها و تسلمها مفتاح البيت للاطمئنان على والديها في غيابها ولم تسألها يوما عن طبيعة عملها ولا أين تذهب.

“ام صاموئيل” كانت امرأة متدينة جدا ومؤمنة وتعيش مع ابنها الوحيد الذي أنجبته من زوجها الذي استشهد في حرب الاستنزاف.

كانت شقيقة تلك الفتاة قد أسست جمعية وتبرعت لبناء دار للأيتام ومسجد وكثر الحديث عنها واشتهرت بلقب الحاجة أم المساكين، لكن الكل كان يجهل بأن تلك المحجبة الورعة كانت تخفي خلف ذلك الزي قلبا قاسيا وجاحدا وناكرا لوالديها وعاقة لهما، وبأنها لم تعد تأتي لذلك الحي الفقير وتشعر بالخجل من ذلك البيت البسيط الذي عاشت فيه صباها وكبرت بين جدرانه، فقط لأنها كانت تستحي من فقر والديها وشقيقتها.

مرت الاعوام و”ملاك” ترعى والديها إلى أن اشتد المرض على والدها وساءت حالته، فكانت ترعاه صباحا وتتكفل به صديقتها “ام صاموئيل” مساءا إلى أن وافاه الأجل وتكفل صاحب المرقص بتكاليف الجنازة ومنحها مبلغا من المال حين علم بالصدفة من زميلة لها  ما تعيشه تلك الراقصة الحسناء من ألم وظنك العيش، واستغرب أنها لم تشتكي له همها يوما، وكيف كانت تغادر المكان بمجرد انتهاء عرضها الراقص، فتستلم أجرتها وتعود إلى بيتها الذي خاله هو شقة فخمة في أرقى الأحياء ولم يتخيل أو يشك لحظة واحدة بأن حيا فقيرا معدما هو من أنجب هذا الجمال وتلك الأخلاق السامية.

في إحدى الليالي عندما غادرت الكباريه قرر صاحب المحل أن يتبعها، وبمجرد امتطاءها سيارة الأجرة قاد سيارته خلفها وصار يتبعها بحذر حتى لمحها تنزل إلى ذلك البيت الفقير، شده الفضول فركن سيارته في مكان غير بعيد واسترق النظر من زجاج النافذة الخلفي لذلك البيت الهرم الذي تآكلت جدرانه بفعل الرطوبة فلمحها تخرج من زاوية مظلمة وتتوضأ وهي مرتدية ثياب الصلاة، وتبسط السجادة وتصلي داعيتا ربها في خشوع ووقار، ثم تذهب وتأتي بالأكل الذي كانت قد جلبته معها وتطعم والدتها بيديها برفق وحنان.

أدهشه ذلك فقرر أن يجمع اشطر شجاعته ويطرق الباب، فاندهشت حين رأته واقفا أمام بيتها وسألته ما الذي جاء به إلى هنا ولما تبعها، فقال لها أدركت من أول يوم أتيت للعمل في المحل أنك لست ككل الراقصات، كان ثمة نور يشع من وجهك لم أدرك مصدره، وعلمت اليوم أن مصدره هو طاعتك لربك وبرك بوالديك وتعلمت درسا مهما في الحياة أن المظهر لا يعكس الجوهر.

اومأت برأسها ايجابا وقالت له أتدري من تكون شقيقتي؟

قال نافيا لا وهل هي راقصة أيضا؟

لا شقيقتي هي من ينادونها بأم المساكين، هي من شيدت دار للأيتام وبنت المسجد، نعم تلك هي شقيقتي زوجة الحاج رضا صالح الصائغ.

لا غير ممكن…. مستحيل

بل هي شقيقتي، لقد كنا أسرة ميسورة وكان والدي يملك مصنعا للقماش لكن شاء القدر وأتى حريق على كل ما كنا نملكه وأفلس والدي بعدها ليصاب بجلطة دماغية جعلته مقعدا بسبب تلك الصدمة ومرضت والدتي بعده بسنة، ولم يكن لدينا معيل، فوجدت نفسي مضطرة للخروج للبحث عن عمل، بعدما تنكر لنا القريب والبعيد وصرنا فقراء، فالناس لا ترحم ولا يهمها سوى المظاهر، لقد وجدت مشكلة في الحصول على عمل فكل باب طرقته إلا واجهت فيه مساومة على شرفي، فكنت أذهب إلى حال سبيلي ولا أعود إليه ثانية.

عندما أوصدت في وجهي كل الأبواب نصحتني سيدة بالعمل كراقصة استعراضية، في البداية بدا لي الأمر مستحيلا وأمام ضغط الحاجة طرقت باب محلكم وكان أول كاباريه أقصده، وباشرت العمل فيه، كنت أؤدي استعراضية وأعود إلى بيتي لأرى شؤون والدتي ووالدي التي كنت أتركها في رعاية جارتي أم صاموئيل مساءا، وأقوم بأشغال البيت من طهي وتنظيف وتغيير ملابس والدي وتحميمه صباحا.

عندما كنت أتي في جنح الليل أعود إلى بيتي مرهقة، أتفقد أمي وأبي وألج إلى محرابي وأصلي داعية من الله أن يحميني من الذئاب البشرية، وأن تظل روحي نقية وكانت والدتي ووالدي راضيان عني وظلا يظنان بأنني أعمل في ورشة للخياطة ولم أحسسهم يوما بأنني سأمت ذلك العيش، ولا اشتكي أمامهم ولا في حضرتهم من التعب ولا تذمرت من واقعي، فقد كنت صابرة محتسبة وواثقة بربي…يتبع

بقلم: نادية بوخلاط من وهران

الإشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

0
يرجى التعليق.x
()
x