ما يبدو سؤالاً خفيّا في رواية ( أنا وحاييم) للروائي ( الحبيب السائح) ( منشورات ميم الجزائر، مسكلياني تونس: 2018) هو:
لماذا لم يعد الجزائري يؤمن بالاختلاف؟ في البداية، لا أظنّ أنّ السائح كتب لنا رواية عن ثورة التحرير الجزائرية؛ فهذه الثورة وما سبقها من ظروف وما تلاها من أحداث كانت فقط مجرد خلفية تاريخية لطرح سؤال الاختلاف. وتحديدا من خلال التنبيه إلى أنّ ما يؤسس لأي ثورة هو الوعي بالاختلاف وتقبّل الآخر.
جسّد لنا السائح مفهوما عميقا للثورة عبر الصداقة المتينة التي جمعت بين أرسلان حنيفي، وهو مسلم جزائري، وبين حاييم بنميمون، وهو يهودي جزائري تجنس بالهوية الفرنسية. وهذا المفهوم يتمثل في: أنّ الثورة هي منجز حداثي . إذ لا تثور المجتمعات إلا على الظلم، ولا يمكن لها أن تثور على هوياتها المختلفة التي تشكّل نسيجها المتين.
لقد تتبعتُ بانتباه تطوّر العلاقة بين أرسلان وحاييم ( تبدو لي هذه العلاقة هي الطاغية في الرواية، وبذلك أعتبرها شخصيا هي بؤرة العمل الروائي ككل)، فوجدتُ أنّ الرواية لم تفصل بين الشخصيتين، على الرغم من أنهما ( أي أرسلان وحاييم) ينتميان إلى ديانتين مختلفتين، فقد ترعرعا معا، وتدرجا في الأطوار التعليمية معا، وتفوقا معا في دراستهما، قبل أن يلتحقا بالجامعة: أرسلان في قسم الفلسفة، وحاييم في قسم الصيدلة. لم تفرّق بينهما حتى ظروف الحرب التحريرية؛ فأرسلان، التحق بصفوف جيش التحرير الوطني، أما حاييم فقد كان يناضل في السر، من خلال توفير الأدوية للمجاهدين. ومع ذلك، ظلّت العلاقة بينهما تتوطد أكثر فأكثر.
من خلال هذه القصة منح لنا السائح إمكانية إعادة قراءة الثورة التحريرية كحدث إنساني تجاوز الغيطو الهوياتي. بل على العكس من ذلك، فقد أبرز أنّ الوطن يقبل كل أبنائه، وأنّ غاية الثورة هي تحرير العباد ليس من الاستعمار فقط، بل من تخلفهم ومن انغلاقهم الهووي.
لكن ما حدث بعد الإعلان عن استقلال الجزائر، أنّ بعض المتحمسين طالبوا بإحراق صيدلية حاييم، وطرده من الجزائر لأنه يهودي متجنّس. كان وقع الحادثة شديدا على حاييم، لولا أنّ أرسلان وقف لهم بالمرصاد، وأشهر مسدسه في وجه الأشخاص الذين جاءوا مدججين بحقدهم. كان مستعدا لأن يدفع حياته لأجل هذا اليهودي. ( طبعا، لم يكن حاييم في نظر أرسلان إلا أخا له، فنادرا ما يتحدثا عن هويتهما الدينية، فما يجمعهما أكثر مما يفرّق بينهما).
هل يُعقل أن يخون الاستقلال، بكل تلك السرعة، مبادئ ثورته؟ إنّ ما حدث في الجزائر بعد الاستقلال هو الانحراف عن مشروع بناء دولة وطنية حداثية، تتأسس على هوية جزائرية متفتحة على كل أبعادها. أين نموقع هؤلاء الشيوعيين الذين دافعوا عن قيم الثورة وعن حق الجزائريين في الاستقلال؟ أين نموقع هؤلاء المسيحيين الذين سقطوا في ساحة الحرب جنبا إلى جنب مع إخوانهم الجزائريين؟ وماذا عن اليهود أيضا؟ الثورة الجزائرية لم تكن ثورة دينية، كانت ثورة علمانية، إنسانية. اليوم نسمع للأسف بعض السلفيين الذين يريدون اختطاف ثورة التحرير وجعلها حربا دينية ضد الكفّار، وقد سمعتُ مرة واحدا منهم، وفي حصة تلفازية، يصف فرانز فانون بالكافر، وبأنه ليس شهيدا.
لم يكتب السائح عن صورة اليهودي، بل عن الجزائري الآخر، الذي هو جزء من التركيبة البشرية والاجتماعية والثقافية التي تشكل في تركيبها الهوية الجزائرية. صورة اليهودي في رواية السائح بريئة من أي حمولة أيديولوجية قد ترطبها بالايدولوجيا الصهيونية أو بمشروع دولة إسرائيل، فحاييم في الرواية رفض السفر مع حبيبته إلى أرض الميعاد في فلسطين، لأنّ بلده هو الجزائر. إنّ موقفا كهذا جعل من شخصية حاييم منسجمة مع موقفها من الاستعمار ومن الظلم الاستعماري، لهذا فإنّ رفضه للسفر إلى فلسطين هو نابع من موقفه إزاء أي شكل من الاستيطان وسلب حقوق الآخرين.
بقلم: الناقد الجزائري، الدكتور لونيس بن علي (جامعة بجاية/الجزائر)