فقدت الساحۃ الثقافيۃ في الجزاٸر الجمعۃ الماضيۃ أحد ابرز الشخصيات الفنيۃ في عالم المسرح قياسا بالمسيرۃ الحافلۃ بالانجازات والتجربۃ الطويلۃ التي ميزها الاحتكاك مع أهم الشخصيات المسرحيۃ والسنيماٸيۃ داخل الوطن وخارجه، حيث امتدت مسيرۃ فقيد المسرح الجزاٸري الفنان جمال بن صابر (1941-2022) على مدار 60 سنۃ كاملۃ لم ينقطع فيها عراب مسرح الهواۃ في الجزاٸر عن الابداع كممثل محترف أو كمخرج مسرحي أو كاتبا لنصوص مسرحيۃ باللغۃ الفرنسيۃ أو ممثلا في أفلام، وكذا مساعدا لمخرجين سينمائيين ناهيك عن دوره البارز في تطوير وعصرنۃ أطر تنظيم المهرجان الوطني لمسرح الهواۃ الذي تستضيفه سنويا مدينۃ مستغانم من خلال أدواره المهمۃ كمدير فني وبعدها محافظا للمهرجان.
بقلم: العربي بن زيدان
واكب الفنان المسرحي جمال بن صابر اهم مراحل المسرح الجزاٸري من فترۃ الاحتلال الفرنسي إلى غايۃ سنوات الاستقلال بعدما اقتحم عالم التمثيل في سن مبكرۃ في خمسينيات القرن الماضي حيث التحق بفرقۃ “قراقوز” ولم يكن سنه يتجاوز العشرين حيث كان أصغر عنصرا في الفرقۃ التي كان يديرها عميد المسرح أنذاك المرحوم ولد عبد الرحمن كاكي (1934-1994) حيث كان نشاط الفرقۃ في تلك الفترۃ المرتبطۃ بتواجد الاستعمار الفرنسي الغاشم في الجزاٸر عبارۃ عن مختبر للتمثيل علی شاكلۃ مدرسۃ الممثل (acteur studio) التي أسسها المسرحي الروسي ستنيسلفسكي.
ويروي جمال بن صابر عن تلك الفترۃ قاٸلا َ:انها كانت بالنسبۃ لنا نحن الجزاٸريين في ظل هيمنۃ و تسلط الاورربيين بمثابۃ تحدي ثوري و نضالي من أجل فرض هويتنا الثقافيۃ عن طريق الفن و المسرح بعدما احتكر الأوروبيون كل المنابر فقد تمكنا في ظرف وجيز من تقديم اولی عروضنا المسرحيۃ لجمهورنا في المدينۃ العتيقۃ تجديت سنۃ 1956.
وتواصلت سلسلۃ عروضنا رغم المنع من طرف الإدارة الاستعماريۃ داخل قبو أين اشتغلنا علی المسرح الايطالي بالتحديد لا كوميديا دي لارتي حيث دعم المخرج المسرحي ولد عبد الرحمن كاكي هذا الشكل المسرحي بتجربۃ القراقوز التي كانت منتشرۃ في دول المغرب العربي وقدمنا مسرحيۃ ديوان القراقوز.
وفي خضم الأحداث التاريخية التي كانت تمر بها الجزاٸر بعدما اشتد عود حرب التحرير ومطالبۃ الشعب الجزاٸري بالاستقلال قمنا بإنتاج مسرحيۃ تاريخيۃ كانت بمثابۃ عمل فني يوثق لفترۃ الاحتلال الفرنسي من 1830 إلى غايۃ الاستقلال 1962″ و المسرحيۃ تحمل عنوان 132 سنۃ.
بدايۃ مشوار الاحتراف
التحق جمال بن صابر رفقۃ أعضا فرقۃ القراقوز تحت قيادۃ ولد عبد الرحمن كاكي بالمسرح الوطني الجزاٸري في اكتوبر من سنۃ 1963 تحت حكم الرٸيس الراحل أحمد بن بلۃ بعدما أمر الأخير بتأميم الأوبيرا الفرنسيۃ أنذاك إلى مسرح وطني، علی خلفيۃ وجود كوكبۃ من الممثلين والمخرجين في تلك الفترۃ علی غرار أفراد الفرقۃ الفنيۃ لجبهۃ التحرير الوطني بقيادۃ المرحوم مصطفی كاتب في خضم هذه الاحداث وبالتزامن مع أعياد الاستقلال والثورۃ قدمت فرقۃ القراقوز من مدينۃ سنۃ 1963 مسرحيۃ 132 سنۃ بقاعه الماجيستيک بالعاصمة الجزاٸر أمام اطارات الدولۃ وضيوف الجزاٸر من زعما التحرر في افريقيا وآسيا وأمريکا الاتينيۃ، يتقدم هذا الجمع الثوري الثاٸر شي غيفارا والذي أطلق بعد العرض عبارته الشهيرۃ ” لقد شهدت بالفعل مسرحا ثوريا”.
ومن العاصمۃ وبدايۃ من هذا التاريخ انطلقت المسيرۃ الاحترافيۃ لجمال بن صابر مثل خلالها في عدۃ مسرحيات من ابرزها “ديوان القراقوز”،”إفريقيا قبل الواحد”، “دم الحب”، “132سنۃ”، “دار ربي”، “كل واحد وحكمه”، كما عرفت هذه الفترۃ تنظيم جولات فنيۃ عبر ربوع الوطن بهدف تعميم نشر ثقافۃ مسرحيۃ في أوساط المواطنين بعد فترۃ محن وعذاب تحت نير الاستعمار.
تألق المسرح الجزاٸري في قلب فرنسا
يروي جمال بن صابر عن هذه الجولۃ الفنيۃ التي أقيمت سنۃ 1966 انها كانت بالنسبۃ للمخرج ولد عبد الرحمن كاكي وباقي الممثلين بمثابۃ فرصۃ الاخذ بالثأر لكل المعاناۃ والحرمان خاصۃ التمييز العنصري ابان فترۃ الاحتلال، فقد اثبتنا كفاٸتنا ولعو كعبنا منذ أول عرض للتوإلى طلبات العروض عبر مدن فرنسيۃ لم تكن مبرمجۃ في برنامج الجولۃ كما حظي تواجدنا بتركيز اعلامي كثيف جلب انتباه المختصين والنقاد الفرنسيين من أمثال جون فيرال، حتی إن الصحافۃ الفرنسيۃ المتخصصۃ أردفت عنوانا بارزا علی صدر الصفحۃ اللأولی تطلب من الممثلين الفرنسيين أن يأتوا ليتعلموا الفن .(venez apprendre de l’art )كان بالنسبۃ لنا نصرا كبيرا وسعادۃ لا توصف ونحن نحقق كل هذه الشهرۃ علی أرض المستعمر .
جمال بن صابر المخرج والمكون
بعد تجربۃ المسرح الوطني التي انتهت سنۃ 1973 انتقل بعدها لينضم لفرقۃ المسرح الجهوي لمدينۃ وهران الموسس حديثا تحت قيادۃ ولد عبد الرحمن كاكي كانت محطۃ ثانيۃ للتقرب من جديد من الممثلين والمخرجين، علی غرار المرحوم عبدالقادر علولۃ ومحمد ادار وصيراط بومدين، غير أن هذه التجربۃ لم تدم طويلا وفضل جمال العودۃ إلى مسقط رأسه مدينۃ مستغانم بعد رحلۃ العشر سنوات بعيدا عن الأهل والأحباب قضاها خدمۃ للفن والثقافۃ
فور عودته لمدينۃ مستغانم اندمج مباشرۃ في النشاط المسرحي کمخرج مسرحي ومؤطر في الجمعيۃ الثقافيۃ التي تأسست سنۃ 1975 من طرف مجموعۃ من الاطارات علی غرار شارف بركاني، غالي بوعسريۃ، بوجمعۃ الجيلالي، الحاج زيان وغيرها من الاسماء التي کانت تشرف علی تنظيم المهرجان الوطني لمسرح الهواۃ في هذه الفترۃ.
لمع نجم جمال بن صابر كمخرج مسرحي يتوفر علی أدوات معرفيۃ وبيداغوجيۃ في مجال فن التمثيل مكنت الفرقۃ التي كان يقودها ان تسجل حضورها القوي علی مشهد مسرح الهواۃ الجزاٸري إلى جانب فرق من قسنطينۃ والجزاٸر العاصمۃ ووهران وسيدي بلعباس والبليدۃ وسعيدۃ حيث ابدع جمال بن صابر في انتاج مسرحيات ذات جودۃ فنيۃ عاليۃ تضاهي في جمالياتها الركحيۃ.
عمل مع الفرق المحترفۃ علی غرار مسرحيۃ “تي لي فيري تاس” أين قدم نقدا لاذعا لاحتكار وساٸل الاعلام العموميۃ وانعدام حريۃ التعبير في المجتمع بفعل الرقابۃ علی المنتوج الثقافي، ومسرحيۃ دي موس قراطوس التي تفضح الحكم الواحد والشمولي، إلى جانب مسرحيۃ العروي عكاشۃ في شكلها المنسجم مع كوميديا دي لارتي أين يتم تفكيک المنظومۃ الاجتماعيۃ من خلال انهيار منظومۃ القيم علی خلفيۃ الزحف الريفي علی المدن.
أما مسرحيۃ “الالف ما ينقطش” فكانت برأي المختصين قيمۃ العطا وذروۃ الابداع لهذا الفنان المخضرم حيث تطرقت المسرحيۃ إلى مأساۃ الشعوب المضطهدة عبر ربوع المعمورۃ خاصۃ الشعوب الإفريقية ما تعانيه من تمييز عنصري وسلب لخيراتها.
يذكر أن المسرحيۃ شاركت في إحدی دورات مهرجان قرطاج الدولي للمسرح ناهيک عن عديد الجولات الفنيه لفرقۃ الإشارة بتونس والمغرب وفرنسا. هذا ودعم الفنان جمال بن صابر بدايۃ من سنوات التسعينيات رصيده الفني بإخراج مجموعۃ من الأعمال الملحميۃ والتاريخيۃ علی غرار ملحمۃ مستغانم التي تستعرض فترات هامۃ من تاريخ المدينۃ الضارب في أعماق التاريخ، حيث انتج العمل بمشاركۃ حوالي 200 شخص بين ممثل وتقني ومساعد واكسيسواريست وموسيقيين.
كما تلتها ملحمۃ الوالي الصالح سيدي لخضر بن لخلوف مداح الراسول صلوات الله عليه حيث يعرف في المنطقۃ بورعه وزهده، إلى جانب جهاده ضد المحتل الاسباني حيث خلد مسيرۃ حياته الدينيۃ والجهاديۃ في قصاٸد من الشعر الملحون أو الشعر الشعبي حيث يعد لخصر بن خلوف مرجعيۃ في الشعر الملحون في منطقۃ المغرب العربي .
جمال ومسرح الهواۃ قصۃ عشق أبدي
توزعت حياۃ الفنان جمال بن صابر طيلۃ 40 سنۃ الماضيۃ بين الانتاج المسرحي والسنيماٸي خاصۃ الوثاٸقي بحكم تكوينه كمدير تصوير، إلى جانب مشاركته في عدۃ أفلام أبرزها “دوريۃ نحو الشرق” للمخرج المرحوم عمار العسكري، فضلا عن اشتغاله كمساعد مخرج في فيلم “صرخۃ الرجال” للمخرج المغترب عكاشۃ تويتۃ ومساعد مخرج مع المرحوم بوعماري.
كما اشتغل مع جميلۃ عراس في مسلسل “العرس”، اخرج فيلما عن الشهيد بن عياد غير أن هذا التنوع في الانتاج لم يمنعه من المساهمۃ بشكل كثيف ومميز في بعث روح فنيۃ وعصريۃ للمهرجان الوطني لمسرح الهواۃْ أحد أعرق المهرجانات محليا واقليميا من تأسيس المرحوم سي الجيلالي بن عبد الحليم سنۃ 1967 بمدينۃ مستغانم حيث شغل جمال بن صابر كمدير فني للمهرجان لأزيد من 15 سنۃ قدم فيها عصارۃ تجاربه ومعارفه في مجال التنظيم، حيث سمحت له شبكۃ صداقته المتشعبۃ من استضافۃ شخصيات مسرحيۃ من داخل الوطن وخارجه إلى جانب استضافۃ فرق من خارج الوطن.
وينعته هواۃ المسرح في الجزاٸر بأبي التكوين وعرب مسرح الهواۃ حيث انتعشت في فترته ورشات التكوين لفاٸدۃ المشاركين تحت اشراف وتأطير خيرۃ المهنيين في الجزاٸر كم يعود له الفضل في ارساء تقليد تكريم ايقونا
ت المسرح الجزاٸري خلال كل دورۃ، ناهيك عن روح التنافس بين الفرق التي تمكن من أن يبعثها داخل المهرجان بحكم تجربته حيث وفر للهواۃ خلال دورات المهرجان فرص الاحتكاك مع فرق أجنبيۃ بهدف اكتشاف تجارب جديدۃ عربيۃ کانت أو أوروبيۃ عبر تنظيم دورات دوليۃ علی غرار دورۃ متوسطيۃ وأخری دوليۃ بمشاركۃ قياسيۃ شهدت لاول مرۃ حضور اوبيرا بكين إلى الجزاٸر.
كما لم يغفل المرحوم الجانب الأكاديمي علی هامش دورات المهرجان خاصۃ لما تولی إدارۃ المهرجان كمحافظ حيث عمل علی أن تكون جلسات الحوار تحت اشراف أساتذۃ من الجامعۃ وإعلاميين بارزين .