من أول من أطلق لقب قراصنة على البحارة الجزائريين!؟ وهل أطلق هذا المصطلح على البحارة الجزائريين فقط في الفترة العثمانية!؟ هناك إشكالية عويصة تواجه الدارس لتاريخ الجزائر في الفترة العثمانية، بحيث يصطدم في طريق بحثه في المصادر الغربية المبكرة منها والمتأخرة بورود مصطلح تم إلصاقه بالبحرية الجزائرية والمغاربية بصفة عامة إلصاقاً غريباً، فلا يكاد يقلب في هذه المصادر إلا ويصطدم بمصطلح “قراصنة”، والحقيقة هي أن أصل الإشكال يقع في الكلمة المعربة “قراصنة البحر”، لأن التسمية الغربية التي ألصقت بالبحرية الجزائرية هي كلمة corsair وليس كلمة pirate المشهورة، وحين نقوم بترجمة كلتا الكلمتين نتحصل على نتيجة واحدة وهي: قرصان!! وهذا أمر غير معقول، لأننا نعرف أن هناك فرق بين الكلمتين الأعجميتين (corsair وpirate)، ومن يشاهد أفلام قراصنة الكاريبي الشهيرة يلاحظ بأنهم يستعملون فقط الكلمة الثانية (pirate) للتعبير عن أولئك القوم الهمج الذين يركبون البحر بحثا عن الكنوز، ويهاجمون كل ما يتحرك فوق مياه المحيط! ولكن لم لم يستعمل مخرج الفيلم كلمة (corsair) ولو لمرة واحدة، وهي التي لها نفس المعنى في اللغة العربية والتي تعني: قرصان.
الظاهر جليا أن هناك فروق كبيرة في المعنى بين مصطلح corsair ومصطلحpirate ، هل الفرق يكمن في حجم القوة البحرية بين أسطول البحرية الجزائرية التي أطلق عليه إسم corsairs (بالجمع) وبين بحرية قراصنة الكاريبي الذين كانوا أقل قوة ويستخدمون عدد أقل من الوحدات البحرية، فأطلق عليهم من أجل إسم pirates!! أم أن الفرق يكمن في أن القوة الأولى كانت حكومية (بتعبير اليوم)، في حين كانت القوة الثانية خاصة أو تعمل لحسابها الخاص!؟ أو ربما الفرق يكمن في أن الcorsairs كانوا يعملون في البحا، أما الpirates فكانوا يعملون في مساحات مائية أوسع، في المحيطات المفتوحة!!؟ وهذا الإحتمال مستبعد تماما لأن البحارة الجزائريين عملوا أيضا في المحيط الأطلسي وجابوه طولا وعرضا وشمالا.
ما الإحتمال الثالث والذي أرجح أن يكون هو الأصح وهو: أن مصطلح corsair إذا ترجمه مترجم ذو كفاءة إلى اللغة العربية فقد يعطينا معنى آخر مغاير تماما للمعنى التقليدي له، أي أنه لا يقصد به القرصان بالمعنى المعروف (يحتاج هذا الموضوع إلى أبحاث أكثر حتى نلم بجميع جوانبه). بغض النظر إن كان المصطلحين (corsair و pirate) متطابقين أو مختلفين ، لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو: من هو أول من أطلق لقب “قراصنة” على البحارة الجزائريين، ولماذا؟ وهل ظهر فقط أثناء الفترة العثمانية أم حدث الأمر قبل ذلك!؟ إذا رجعنا إلى ما قبل الفترة العثمانية في الجزائر بسنوات قليلة، لوجدنا أن المنطقة كانت تفتقد إلى وجود دولة قوية تستطيع حماية سواحلها، وكل ما كان قائما هو إمارات محلية صغيرة، أما الدولة الزيانية التي كانت تبسط سلطانها على كامل التراب الجزائري في العصر الوسيط فقد كانت في هذه الفترة في الرمق الأخير من حياتها، وتكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإنحصر نفوذها على مدينة تلمسان وما جاورها ، وكانت معظم مدن الساحل الجزائري يحكمها مشايخ محليون، أما مهمة الدفاع ضد أي خطر خارجي فقد كانت كل مدينة تعتمد على نفسها بنفسها، في غياب أي أمل حول ضرورة قيام إتحاد بين هذه المدن في مواجهة الخطر الأوروبي المتصاعد ، خصوصا إسبانيا الكاثوليكية التي لم تكد تنتهي من القضاء على آخر وجود إسلامي على الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، حتى وجهت إنظارها صوب السواحل الجنوبية لنفس البحر، والسبب الرئيس “ديني” بحت، وهو الروح الصليبية التي كانت تحكم الدولة الإسبانية الناشئة، هذا التعصب الديني الأعمى جعلها تنظر إلى مدن شمال إفريقيا بمنظور الخطر المحدق بها ، خصوصا بعد هجرة الآلاف من الموريسكيين الأندلسيين كلاجئين إلى هذه المدن، خاصة الجزائرية منها، ولأن هؤلاء الموريسكيين كانوا يجيدون فنون الملاحة البحرية، بل أكثر من ذلك ، فقد كانوا بارعين في الصناعة البحرية وبناء القوارب الصغيرة والكبيرة، وصناعة كل ما يتعلق بالبحرية الحربية، حتى أن صناعة السفن إضمحلت تماما في كتالونيا بعد مغادرتهم (1)، فقد إنخرطوا بقوة في هذا الميدان على سواحل مدن شمال إفريقيا، وساهموا في تطويره أكثر هناك.
إذا .. كان لإنخراط هؤلاء الموريسكيين في الحياة البحرية لمدن شمال إفريقيا عدة أسباب منها ما يتعلق بضرورات الحياة وإكتساب لقمة العيش والإندماج داخل هذه المجتمعات الشقيقة، ومنها ما يتعلق بالحالة النفسية لهؤلاء المطرودين الذين كانت تملأ قلوبهم غصة الطرد والهروب وغصة إخوانهم المضلومين والمصلوبين والمعذبين والمنصرين على أيدي محاكم التفتيش الرهيبة، وهذا ما ولد لديهم دافع ورغبة في “الإنتقام” كما ذكر المؤرخ ستانلي_لين_بول(2)، وهو الأمر الذي رأت فيه إسبانيا الكاثوليكية أمرا بالغ الخطورة على وجودها وإستمرارها، خصوصا مع وجود بقايا من الموريسكيين الذين كانوا رافضين للإندماج في المجتمع الإسباني على أراضيها، مع إحتمالية نشوء تعاون بينهم وبين إخوانهم في الضفة الجنوبية، وهو أمر حصل فعلا وتثبته الوقائع التاريخية (3) فوجهت دفة سفنها وأساطيلها الحربية ناحية سواحل جنوب المتوسط ، وبدأت بإحتلال مدنها واحدة بعد الأخرى، وكان المرسى الكبير بوهران هو أول قاعدة للقوات الإسبانية في إفريقيا (سقط سنة 1505م) (4)، وبعد 3 سنوات فقط سقطت مدينة الجزائر وأصبحت تدار من طرف حامية إسبانية متمركزة في قلعة البينيون، وفي سنة 1509م فكر الملك الإسباني فرديناند في الإشراف بنفسه على حملة كبيرة على الجزائر (5)، ولكنها لم تتم، ثم جاءت حملة الكاردينال الكاثوليكي المتعصب زيمنس Xemenez في 20 أوت من نفس السنة تحت شعار: “حملة خدمة الرب ومنع الشر والضرر من طرف الموريسكيين في كل مكان في تلك الممالك”(6).
كانت هذه أول جملة في طريق طويل لشيطنة سكان شمال إفريقيا وإلصاق أقذر التهم والعبارات بهم، وربما حملة الشيطنة هاته بدأت بعبارات تبدو بسيطة مثل (حملة منع الشر والضرر!!) ولكن سنرى لاحقا أنها كانت مقدمة وتمهيد لذلك المصطلح الذي تم إلصاقه لصقا وثيقا بشعوب شمال إفريقيا عموما، والبحارة الجزائريين بشكل أخص بعد شيوع العبارة التي أطلقها الكاردينال زيمنس ، فارت دماء الإسبان وتوقدت الحمية الدينية لديهم أكثر مما هي موقودة ، فإنطلق القبطان بيدرو دي نافارو على رأس حملة بحرية ضخمة قوامها ثمانون سفينة وعشرة قوادس تحمل 8000 جندي و3000 خيال على مدينة وهران يوم 18 مارس 1509 فيما يشبه الحملة الصليبية، وخير سكانها بين التنصير أو التقتيل، وحين رفضوا التنصير عاثت قواته فسادا في ساكنة المدينة وفي مبانيها ومساجدها وحوانيتها، وكانت النتيجة إستشهاد 4000 آلاف، ونقل 5000 آلاف كعبيد إلى إسبانيا، مع غنائم بقيمة نصف مليون دوكة (7)، وحين دخل الكاردينال زيمنس إلى وهران كان أول ما فعله هو إقامة كنيستين للكاثوليك، وديرين للمبشرين، وعين مفتشا للتحقيق على شاكلة ما كان قائما حينها في إسبانيا من محاكم للتفتيش، فكان الظاهر لحملته هاته هو التعصب الديني، كذلك الأمر بالنسبة لشعار حملته التي أطلقها!! وفي ربيع سنة 1510م شن الإسبان حملة أخرى على مدينة بجاية، قوامها 15 سفينة تحمل 14000 جندي (تقرر على إثرها فرض معاهدة على حاكمها تنص على منع إيواء “القراصنة المسلمين”، وكان هذا أول إستعمال عبر التاريخ لمصطلح “قراصنة” ضد الجزائريين، ونلاحظ هنا أن إستعمال المصطلح جاء في نص وثيقة إسبانية رسمية وليس المؤرخين هم من أطلقوها على البحارة الجزائريين كما يعتقد الكثيرين اليوم، كما نلاحظ أن أول إستعمال لهذا المصطلح وقع في سنة 1510م ، أي قبل وصول العثمانيين إلى المنطقة بسنوات، وأضاف إليها كلمة “المسلمين” تأكيدا منه على الأصول الدينية لنشأة مصطلح “قراصنة”، ومصطلح “المسلمين” هنا يجمع تحت معناه جميع البحارة العاملين في سواحل الجزائر وشمال إفريقيا، سواء كانوا من الجزائريين أو من رفاقهم الموريسكيين، أو أي بحارة مسلمين من مناطق أخرى، كلهم ممنوعين من اللجوء إلى ميناء بجاية، ونفس الشرط تم فرضه لاحقا على جميع الموانىء الجزائرية التي كانت تخضع لسيطرة الإسبان.
والكتابات التاريخية تؤكد لنا أنه قبل هذه الفترة (سنة 1510م)، كانت هناك بحرية جزائرية على قلتها تجوب مياه البحر المتوسط، وتتخذ من موانىء المنطقة ملاجىء لها، ولم ينتظر الجزائريون قدوم العثمانيين لينشؤوا نظام بحري خاص بهم ، حيث يذكر الجندي سواريز أن البحارة المحليون بالمرسى الكبير كانوا يملكون 12 غليوطة قبل إستيلاء الإسبان على المدينة، كما يذكر أنهم كانوا يتحدون مع بحارة وهران الذين كانوا أكثر تجهيزا منهم، وقاموا معا بمهاجمة عدة مدن إسبانية، كما نجد بحارة كثر من أصل أندلسي بمدينة شرشال حسب ما ذكره حسن الوزان، كما كانت مدينة بجاية تمتلك أسطول بحري قوي بقيادة محمد بن علي مهدي، أما مدينة الجزائر سنة 1460م فقد تجاوزت بجاية وتونس بكثير، حيث أقلع منها الأسطول الذي هاجم توسكانة سنة 1472م، كما أقلع أسطول مكون من 16 سفينة حربية يحمل قرابة 500 بحار من مدينة الجزائر لمهاجمة سلورا في مدينة فالنسيا حسب ما أورده المؤرخ جاك هييرس في كتابه “البارباريسك”(9) كل هذا يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن الجزائريين كانوا يملكون بحريتهم الخاصة قبل قدوم العثمانيين، وهذه البحرية الجزائرية على قلتها إلا أنها كانت تشكل خطرا على السواحل والمدن الإسبانية، لذلك كان الإسبان يصرون على إملاء “الشرط الذهبي” الذي يمنع الموانىء الجزائرية التي تقع تحت أيديهم من إيواء “القراصنة المسلمين” حسب تعبيرهم!!
ومن هنا بدأت حكاية هذا المصطلح المقزز الذي أطلق على من يذوذ عن دينه وأرضه في الإنتشار والتبلور حتى أصبح لصيقا بكل ما يمت بصلة للمسلمين في شمال إفريقيا، وإستمر إستعمال هذا المصطلح بعد قدوم البحارة العثمانيين ولازمهم طوال تلك الفترة كنوع من الإذلال المعنوي الذي يشتهر به الأوروبيين ضد كل من يعاديهم، وتلقفه المؤرخون الغربيون وصار لا يفارقهم في كتاباتهم عن البحرية الجزائرية وبحرية شمال إفريقيا، وصار ذلك ديدنهم كلما تكلموا عن الضفة الجنوبية من البحر المتوسط، ولكن الغريب هو كيف تلقفه البعض منا وصاروا ينعتون به بحريتهم القديمة بدون وعي ولا علم بمنشأ هذا المصطلح، وكيف بدأ إستخدامه ولماذا، وراحوا ينسجون على منوال الكاردينال زيمنس والسفاح بيدرو نافارو ودي فيليس وغيرهم ممن عملوا على تكريس هذا المصطلح كإسم علم يرمز للبحارة الجزائريين، ويشبههم بالقراصنة الحقيقيين الذين كانوا يرتعون في موانىء رودس ومالطا في وقت لاحق!
- أ. مراد كحلوش
________________
(1) John Lynch, Sapin under the Habsburg , 2nd ed, Oxford, 1981, p80
(2) lane_Poole, the Barbary Corsairs, p.8, cf:Hess, the Moriscoss
(3) أنيس عبد الخالق محمود القيسي، النشاط البحري العثماني في البحر المتوسط (أطروحة دكتوراه)، بغداد، مارس 2008، ص98
(4) عزيز سامح التر، الدخول العثماني إلى شمال إفريقيا، إسطنبول، 1934 ، ص31
(5) Fray Prudencio de Sandoval, History of the Life and Facts of Emperor Carlos 7 , Vol 1, Oxford, 1956 (translated from the original spanish of 1614 by Ronald Thompson, p34
(6) Fisher , the Barbary legend, p34
(7) Fisher , ibid , p46
( 8) ibid , p41
(9) مراد كحلوش، دولة الجزائر البحرية (1516_1830م)، دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة، الجزائر، 2021 ، ص 13_14