بدأت في كتابة هذا المقال في طائرة الخطوط الجوية الجزائرية الوحيدة ـ منذ الإستقلال مثل حزب جبهة التحرير ـ مؤكدا دعمي للزميلة سارة بوعياد التي أسست مؤخرا أول قناة ثقافية الكترونية ناحتة من الصخر، وحارقة كل حدود اليأس والإحباط “ببوطي”ّ ثقافي غير مسبوق.
كتبت السطور الأولى ماسحا دموعي ورافعا كمامتي إلى مستوى عيوني احتراما لركاب كانوا يضحكون بجواري لحظة سقوطي النفسي الحر، ومغادرتي وطن لن أٍكرهه رغم كل محاولات فاسديه لدفعي إلى شعور بغيض سيؤكد فشلهم التاريخي الرائع قبل اليوم. بعد تأخر أصبح المسافر الجزائري ينتظره بلهف حتى لا يصاب بصدمة سرور أول من نوعه، انطلقت الطائرة متأخرة بساعة تحت شمس جزائرية سخية في عز الشتاء، وانطلقت من جهتي في الكتابة عاجزا على إخفاء حروف عربية بعد أن نجحت في توظيف كمامة أضحت صالحة لاعتقال وسجن الدموع دون محاكمة.
بعد أن نجحت في البكاء مبللا الكمامة التي أصبحت تلعب دورا جديدا يختلف عن الذي يروج له الخبراء في الفيروسات، فشلت فشلا ذريعا في إبعاد نظر ركاب ابدوا تعجبهم لكاتب يرفع لغة الضاد إلى السماء لحظة توجهه إلى باريس التي يتاجر فيها إريك زمور بكل ما هو عربي بأبشع حقد مرضي لا يمت بصلة للتحليل الفكري.
جارتي التي كانت جالسة على يميني، وجارتي الثانية التي راحت تصور أرض الجزائر لحظة الٌإقلاع من اليسار راحتا تسترقان النظر في اتجاه حروف لغة أصبحت تعلم في معهد العالم العربي من باب الاعتراف بها في الزمن البدل الضائع بعد أن تحولت إلى سبب في انتشار التطرف والإرهاب ليس في نظر إريك زمور فحسب، بل حتى في تصور الكثير من المثقفين الحداثيين يمينا ويسارا.
خططت لكتابة رسالتي الثانية للزميلة الانتحارية ثقافيا للوقوف عند حدثيين فرنسيين يؤكدان استمرار باريس الحمقى الظلاميين إذا استندنا إلى الذين ربطوا بين اللغة العربية والإرهاب قبل وبعد انطلاق سباق الانتخابات الرئاسية، وباريس الأنوار المرادفة لمبدعين استثنائيين يصنعون الفارق الحضاري والثقافي بما تركوه من بصمات وإضافات فكرية وأدبية وفنية وعلمية بعد مور عقود وقرون على التحاقهم بالقبر مجازا.
ولأن إثارة ومعالجة قضية ما، أمر لا يتم خارج سياق موضوعي يفرض نفسه على الصحفي احتراما لنفسه وللمتلقي، لا يمكن ادعاء استمرار أنوار باريس في الاشتعال دون التحدث عن الحدث الثقافي الفرنسي الأول الذي تناولته قبل أيام في موقع “ضفة ثالثة” التابع لصحيفة “العربي” الصادرة في لندن.
تمثل الحدث الأول في تكريم فرنسا لموليير بمناسبة الذكرى المئوية الرابعة لولادته، والذي أضحى حدثا داخل الحدث السياسي المتعلق بالانتخابات الرئاسية التي اخترقها صاحب مسرحيات “البخيل” و”دون جوان” و”طرطوف” و”مدرسة النساء” وبمسرحيات أخرى تركته يبقى حيا بيننا بحكم أنيتها الغارقة في النفس البشرية. وتمثل الحدث الثاني، في عودة ميشيل ولبيك برواية “إبادة” التي صنعت الحدث الروائي ليس من منظور الإثارة المرادفة لشخصيته المشاكسة على طريقة الراحل الطاهر وطار كما يعتقد البعض، وإنما تحت وطأة إضافاته الإبداعية التي كرسها من جديد بأسلوب متميز وساحر وغارق في السخرية بغض النظر عن توجهه الذي يصب في مجرى مثيله عند إريك زمور.
الروائي الذي تصور رئيسا مسلما لفرنسا في رواية “خضوع” يتاجر بالتخويف والترهيب الإسلاميين مثل زمور، لكنه يبدع من رواية وأخرى متجاوزا هذا الهوس إلى قضايا ناقدة لمجتمعه مثل طغيان الفردية والأنانية والنزعة المادية والعزلة الاجتماعية كما أكدتها ولازالت جائحة كورونا.
إنها الجائحة الرافضة للرحيل بتواطؤ جهات ماركنتيلية على حد تعبير الذين يؤمنون بالمؤامرة حسب جهابذة وسادة الإعلام الأحادي المسيطر في العالم، والذي يطبخون رأيا عاما على نار هادئة بأساليب في غاية النعومة والخداع لكن بمهارات مهنية لا تقبل الشك والطعن.
إنها المهارات المشكلة لعلم تجاوزنا به الغيورون على شعوبهم على حد تعبير ما يعني ويشبه كلام الرئيس بوضياف الذي أشبع رصاصا على المباشر وهو يخطب عبر قناة حكومية مازال يصفها الجزائريون باليتيمة رغم ظهور قنوات أخرى أضحت يتيمة في نظر الكثيرين على طريقتها.
بقلم: الكاتب والإعلامي بوعلام رمضاني