يحدث أن ينتابنا الشّعور بالانتماء الفعليّ لمجرّد أنّنا أدركنا المألوف، أو استوعبنا مصطلحات تعوّدنا أن نلفظها لفظا لا تلفّظا، تلك الّتي ترسم براديغم فكر إرث الأجداد.
وإن كان هذا الإرث يرسم معالم الحاضر، فهو حامل لشحنات ثقافيّة ترتسم في مخيّلة كلّ من تمتّع بثبات الأنا الّتي تشاركه إيّاها الأرض. وإن وجدنا في مقابل “الأنا” الضّمير “هو”، فهذه الهويّة تكون بمثابة ماهية للشّخص أو الجماعة على حدّ سواء، حيث لا معنى للأنا دون الآخر.
وليس ببعيد، فللأرض حاملة الإنسان هويّة أيضا، تضمن الثّبات الماهوي التّاريخي لكلّ متحوّل، إنّما عبر أوعية معيّنة تتمثّل في اللّغة الّتي تحوي بدورها رموزا. فمن استوعب شيئا من تلك اللّغة شعر بالحضور الكافي وعاش هويّته علما وإدراكا وألمّ بفلسفة مجتمعه كما هي، ومن فاته ذلك عانى شيئا من الاغتراب في غمرة الحضور وإن كان لا يعيه فعليّا. فقد تناهت إلى حواسّنا أشكال عدّة عن دلالات الطّوبونيميا، نأتي إليها بمقاربة سوسيولسانية وإيراد نماذج عن تجلّيات هذا السّؤال الوجودي الّذي يمسّ كينونة الإنسان.
فمن شأن الاغتراب أن يحدث في غمرة الحضور لمّا نزور مكانا لا تسعنا محدوديّتنا المعرفيّة فهم مدلول اسمه، أو بلوغ مدينة نجهل معالمها وعلاقة منطق فكر قاطنيها بالتّضاريس والطّوبونيميا، فتردّد تسميتها مع جهل دائم بفحواها. لذلك، من منظور العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة وبمقاربة سوسيولسانيّة، تعطي اللّغة الّتي تعكس فكر الإنسان للمكان معنى، وبالتّالي من شأنها الإلمام بإدراك فعليّ للهوية، فكيف لو كانت هذه اللّغة ذات بعد وجودي؟
كيف لا يشعر بشيء من الاغتراب المعرفي من يزور “تاهات أتاكور” بأقصى الجنوب ولا يعي فحواه؟ أو تغردايت أو إيليزي أو تلمسان أو تاغيت أو تخوم وارسنيس؟ وكيف لا يشعر بالاغتراب لو زار الشّخص أمكنة تعوّد أن يلقّبها باسم بديل مثلا، كأن يقول “لومبيز” عوض “تازّولت”، وهذا من أمثلة سياسة الاحتلال الفرنسي في تكريس التّسميات الرّومانية.
كتعريف، فالطوبونيميا لفظ يعني علم دراسة الأماكن، وأصله اللّغوي آت من TOPOS و ONOMA أي الأرض والاسم، الموافق لـ “توسنا نواكال” بالأمازيغيّة. ولتحليل معطيات هذا العلم، تتدخّل الفلسفة والأنثروبولوجيا وتاريخ اللّغة وليس فقط الجغرافيا.
أمّا لفظ الهويّة المجرّد المشتقّ من “هو” ليعبّر عن الذّات الثّابتة، فيقابله “توماست” بالأمازيغيّة، متغيّر تماهق (المتغيّر التّارڤي). وبطبيعة الحال، فالمتغيّر المذكور استطاع، بتوفّر عامل التّدوين، الحفاظ على الكثير من الألفاظ المجرّدة الّتي استمدّت للتّعبير عنها في المجال السّياسي مثلا على غرار المساواة والعدالة والدّيمقراطية…الخ
وكما نعلم، كلّ ما هو غير مادّي يعدّ عرضة للاندثار أكثر من غيره، لاسيّما مع ندرة التّداول والتّدوين.
إنّنا بمجرّد ملاحظتنا للّفظ اللّاتيني الموافق للماهيّةEssence وفعله Esse نقتفي الباراديغم اللّغوي نفسه في الفعل التّارقي “يموس” الّذي يحمل جذر “توماست”، أي الهوية، و”يموس” بدوره فعل للكينونة، هذه الأخيرة الّتي يوافقها لفظ “إلّي”.
إذن، نستنبط أنّ أوّل تساؤل يمسّ الكينونة كتعبير عن الهويّة، والكينونة تحيل بدورها إلى الوجود.
ففلسفيّا، هناك توتّر وجودي يؤدّي عادة إلى التّساؤل حول الهويّة والماهية والكينونة.
وكنماذج لتجلّيات السّؤال الوجودي في تلاحم الإنسان بالأرض نجد:
تسميات نسبة لشكل الأماكن والتّضاريس ونوعية التربة:
وهنا نذكر لكم أمثلة ممّا أتى به العلّامة والمجاهد حوّاش عبد الرّحمن عليه شآبيب الرّحمة.
“أغرم”: قرية محصّنة village fortifié
مثلما نجد تسمية “تيغرمت”، هذا اللّفظ المؤنّث الّذي يكنى به قصر يتّخذ شكلا هرميّا كقصور تغردايت ولكن صغير الحجم، يتواجد بولاية الأغواط، فيه برج ويحوطه سور.
وبالمناسبة، ففي الأمازيغية عادة ما يبرز التّصغير منوطا بالمؤنث، ومثاله “أغرم تيغرمت/ أورير تاوريرت”، مع العلم أنّ لفظ “أغرم” شائع في الجنوب كتغردايت والبيض وبشار والنعامة ووارڨلان وأدرار؛ وهذه الأخيرة تفيد الجبل بالأمازيغية وجمعها إيدورار.
أغلان: يردّده بنو ميزاب بكثرة في تداولهم اليومي للتّعبير عن مسقط الرّأس، ونجده منتشرا كتسمية في مناطق عديدة كعين تيموشنت غربا والزّيبان ببسكرة شرقا، وهو اسم جغرافي يفيد أرضا زراعيّة تمرّ بها الأودية وتقع بين جبال حصويّة ينعدم فيها الاخضرار، وللإشارة، يتوفّر مثل هذا التّعريف في المعاجم الفرنسية القديمة.
ولفظ أغلان مجرّد نموذج بسيط عن بلاغة اللّغة الأمازيغيّة، أين يعوّض لفظ واحد ترسانة من الألفاظ، علاوة على وجود تسميات مثل “أغلال” تسبّبها ظاهرة معروفة لغويّا وفونولوجيّا بإبدال النّون لاما، الأمر الّذي تشترك فيه بالأخص المنطوقات الّتي تصدر من مخرج الصّوت نفسه.
وبتغيّر العلاقة بين الدّال والمدلول مع الوقت، تبعا لميكانيزمات اجتماعيّة معيّنة، أمسى اللّفظ يفيد مسقط الرّأس، فكان مصدرا لعدّة مصطلحات مستحدثة في الأمازيغيّة المعياريّة للتّعبير عمّا هو وطني أو خارج حدود الوطن في السّياق السّياسي وهي:
Aghelnaw وطني
AgrAghlan دولي
أمّا حسب نوعية التّربة: نجد لفظ سطيف، أصضيف، مثلما يتوفّر لفظ تيميزار الّذي يعني بالمتغيّر المزابي وغيره الأراضي الصّالحة للزّراعة.
وكاسم مكان، يتجلّى اللّفظ في تيزي وزو كاسم لقرية وفي جيجل كاسم لشاطئ بمنطقة العوّانة، وكذا في ربوع متفرّقة من شمال إفريقيا، ناهيك عن وجود تسميات ذات علاقة بالماء مباشرة.
متليلي: من اللّفظ الأمازيغي “أمتليل” الّذي يعني أكواما من الرّمل الأبيض “تامتلت”.
هذا، ناهيك عمّا يحيل إلى أسماء نباتات وأسماء عائلات وأعراش، مثلما يبرز عامل مهمّ وهو الاستعارة، بالأخصّ استنادا إلى أعضاء جسم الإنسان، فنجد:
تغردايت: وهو اللّفظ المستعمل في التّداول اليومي منذ القدم، أصله تغرظيت بمعنى الكتف وجمعه تيغرظين، ويفيد المنكب الجغرافي l’épaule géographique.
ونماذج الاستعارة من أعضاء جسم الإنسان في الطّوبونيميا الأمازيغيّة لا حصر لها مثل: لفظ إغيل، وإغيل هو الذّراع، مثلما يبرز ما تعرّض للتّرجمة على نحو ذراع الميزان. وممّا لم يتعرّض للتّرجمة، لدينا إيغيليزان. كما تشترك في لفظ إغيل أسماء عائلات مثل إغيل أحريز، إغيل إيمولا…الخ وهي من نماذج تلاحم الإنسان مع أرضه الّتي يرى فيها ذاته .
أيضا، نجد “تيزي- ثيزي”، ومنها أتت ألفاظ مثل: ثيزي وزو، ثيزي نبشار في سطيف، وتيزي نواضو في عين الدفلى.
في الأخير، تعطينا النّماذج المذكورة لمحة عن فكر الإنسان القديم، إنّما لا تنفكّ عن جعلنا نستوعب فكرة أنّ الطّوبونيميا أمدّها الإنسان الشّمال إفريقي من جسده وروحه إلى درجة الحلول في الطّبيعة، فشكّلت هويّة له، إذ أنّ الأرض مرآة لوجود الإنسان وكينونته لتعكس بدورها باراديغم فكره.
بقلم: إيمان كاسي موسى – باحثة أكاديميّة وإعلاميّة