ريغة، بداية ١٩٥٥
يقال أنّ الصراحة تغلق أبواب الريبة، تنام المدينة على الصراحة المفرطة وعلى الشكِّ المفرط أيضا؛ لأنّ جميع مساءاتها تشبه لون قميص ذاك المجنون الذي يسكن قرب المقبرة، لون يميل إلى الرماديِّ وتزيّن رقبته قطعة قماش بلون أحمر قانٍ يربطها جيِّدا حتى جنبه الأيسر. وقطعة أخرى يربط بها موقع إصابة بقدمه لا يزال يُخيَّل له أنّها تؤلمه. ينهض”حمى الملاح ” صباحا على صراخ الأطفال وهم يرمونه بالحجارة فيرميهم هو بدوره بكلمات نابـية لا يعرف غيرها، وحين يملّ الأطفال ويتدخل ككلِّ مرّة رجال “ريغة ” ليفضُّوا تلك السمفونية من الصخب التي لا تنتهي.
يتّجه “حمى الملاح” صوب المقبرة ليملأ جيبه الأيمن وكيسًا يحمله دوما بتراب القبور. ويتجه متثاقل الخطى بعرجته الواضحة وملامح وجهه المتعبة وكأنّها منحوتة من الصخر تجاه الثكنة العسكريّة فيتهامس عسكريَّان بلغة فرنسية لا يفقهها المجانين، أحدهما لا يحسن بعد ترتيب بدلته العسكريّة لصغر سنه؛ فيضع “حمى الملاح ” كيسه وينزع خُفَّيه ويجلس مليًّا ثمّ ينهض و يذرّ حبّات التراب بكفِّه تجاه الثكنة، فينتفض العسكريُّ الأصغر سنًّا فيربت على كتفه صاحبَه ليدع المجنون وشأنه، ثـمّ يدخل “حمى الملاح” بحالة هستيرية وهو يُلوِّح بالتراب تجاه الثكنة وبصوته العميق، والتراب يعانق هواء المدينة، يردِّد كلمة “تخلى… تخلى “، ثـمّ يغادر المكان في انتظار يوم جديد متّجها صوب بيت أخته عائشة التي تسكن أطراف المدينة، عائشة تلك العجوز التي أحبّت شابًّا عندما كانت تزهر للحياة وفاح عبق عشقها ليخبر القدر بحبِّهما، ولكن ذات مساء وهي تسارع الخُطى صوب بئر الماء لتملأ الجرّار وتنتشي برؤية محبوبها، وما إن اِقتربت لرباعه حتى هالها خواء المكان ولم تجد إلّا رماد نار الموقد؛ ففقدت عقلها وقلبها وباتت تُغنّـي “ساقوا المرحول يا عَيْشة، ساقوا المرحول للهَيْشة “.
منذ ذاك الزمن منحها أهل ريغة بيتا بأطراف المدينة لعلّها تنسى الأمكنة.
هذه قصّة عائشة و أخوها حمى الملاح، التي يرويها أهل ريغة ولكن لا أحد يعرف من أين جاؤوا أوّل مرّة، وكيف باتوا جزءًا من حكايا ريغة ومُستراحًا يجده الأطفال مُمتعا بغضب حمى الملاح وغناء عيشة حنينا لحبيبها….