بعد وفاة أمها بثلاث سنوات بقيت هديل تتأمل والدها وراء نافذة الانعاش وصدره يكاد منسوج بخيوط مراقبة الضغط والأكسجين ونقل الدم، تأملته جيدا وكيف انحنى العمر في تفاصيل وجهه وكيف تثاءبت الذكريات في ملامحه، تأملته واشتاقت أن تحضنه، بقيت واقفة شاخصة تتأمله، أحست كثيرا أنه راحل في القريب، همس لها الطبيب قائلا: الأعمار في يد الله، مع المساء استقلت تاكسي عائدة نحو أوقاس تتأمل كيف يغيض البحر اجهاشا تحت وحي المطر، تتأمل البحر تبحث عن نفسها، بقيت وحيدة، أمها في القبر وأبوها في غرفة الانعاش، صارت أيامها مثل أنياب الوحش تغتلها رويدا رويدا، تخرج من العمل ثم تلقي نظرة على أبوها وتغادر نحو بيتها حيث تجد دامسية الظلام، توقظ جوانب البيت واطلاله بإشعال المصابيح ثم تظل واقفة طيلة العشية تتأمل كيف يجاري الطريق الرئيسي بالسيارات والشاحنات العابرات هاربات من مساء الناصرية، أو أحيانا تخرج مختفية تحت مظلتها تقتني بعض المواد الغذائية وتجلس في الكافيتيريا تحتسي فنجان قهوة رفقة إحدى صديقاتها التي تعمل طبيبة تبادلها خيوط الكلام عن حالة والدها وعابرات زمنية أخرى من يومياتها، حتى أن النعاس يغتالها فتنام في مكتبها في قاعة التحرير في جريدة الوطن، انهكها واقعها المرير بين الوحدة وبين قرة عينها ينام في الإنعاش.
متعبة هديل ومكسورة الخاطر وأحيانا تستجمع بعض القوة وتشعر أنها بخير بين مزاح زملائها وزميلاتها، حتى تجد نفسها مشنوقة ومقهورة أمام فراش والدها ملقى به في قاعة الانعاش في الطابق الرابع في مستشفى خليل عمران، تتأمله طويلا تمتمات أسفل لسانها كأنما تريد أن تخبره، أن العشاء جاهز وأن كوب قهوته موضوع في طاولة ركن البيت وحتى أنها تغسل له سيارته و تجلس بجانبه طيلة المساء يمازحها ويحاكيها ذكرياته مع والدته التي أبكتهما طويلا بعد وفاتها، فلم يبقى سوى كرسيها الخشبي موجه قبالة البحر تتأمله في المساءات الماطرات كيف تثني قطرات المطر عليه شكرها وكيف تغسل الخشب من الخشب.
الخميس الساعة الرابعة بعدما تلى الإمام طيبات الاذان، توغلت مختفية تحت مظلة حمراء تحمل حقيبة سوداء عابرة من مقر عملها من شارع الدواجي نحو اعمريو، تساقط المطر بغزارة وتسللت مياهه تفاصيل الشارع بشراسة، بخطوات منظمة تضع في أذنيها سماعات الهاتف تستان ذاتها بمعزوفة فرنسية، عبر أول محطات الحافلة فلم تستقل الحافلة، عاتبت الطريق نحو المستشفى، و في بداية الرواق الرابع تأملتها بعض الممرضات بنظرة خريفية واحداهن رتبت على كتفكها رتابات التعزية فتجمدت واقفة، فتح الطبيب الباب فلمحها فبقي ساكنا حزينا للخبر الذي سيبكيها.
فهمت هديل أن كل تلك الدراما عنوانها والدك انتقل إلى رحمة الله، جثمت روحها وبقي جسدها واقفا، جانبي معطفها مبلل تتقاطر منه قطرات المطر المتساقط ونهايات شعرها مثل الندى في أوراق شجر الزيتون، تقدم نحوها وقال لقد توفي جراء ضعف في دقات القلب، أدخلها فارتمت في حضنه وبعثت عويلا طويلا، يا أبــــــــــيي.
وأجهشت حتى كاد البرق يكسر زجاجات نوافذ العالم، تسارعت صيحتها بين أروقة وطوابق المستشفى، غادر الطبيب متأثرا وبقيت وحدها تحتضن والدها الذي غادر الحياة الدنيا، ظلت صرخاتها ومناداتها لوالدها، صوت مقهور وحزين تباكت أجفان المرضى والأطباء والممرضين.
ظلت هديل نائمة جنب والدها أمسكت يده واحتضنته وبقيت تبكي:
كيف تغادر هكذا
هيا أخبرني
ملابسك غسلتها رتبتها وأخبرتني أنك ستستغني عن العصر وتمشي بدونها
وكيف سأتسوق وحدي مساءا وأزور قبر أمي وحدي
أما وعدتني أن نقضي عطلتنا القادمة في باريس
كيف سأعود للبيت وأنت غائب
أبي عد أبي عد
لم تجف أجفانها أدمعا، تهاوت فواصل خاطرها مثل أوراق الخريف، التف حولها العابرين يتأملونها تتباكى أجفانهم، حضر الأهل بعدها، ثم ألقوا الوشاح الأبيض على وجه وسمي بالمرحوم والدها.
هي تبصم أخر قبلة لها في جبهته تاركتا عليها دمعة حب، سحب الممرض مخفيا والدها، أغمي عليها بعدما هاج خاطرها من الفقدان، نقلوها للإستعجلات استفاقت تسترد وعيها المرير وعي مملوء بالفقدان والبكاء والحزن، أخذها أحد الاقارب نحو بيتها يعج بذوي التعازي، استقبل التراب جثمان الفقيد، تحك تراب القبر بيدها تحكي أحاديثا وتمتمات
غادرت عند نهاية القبر تفتح مظلتها، غابت عن العمل الأسبوع الاول، كانت ليلياتها بكاء وعويل وأحيانا تبعث صرخة طويلة يجري نحو الجيران تقول لهم:
أنا حزينة لرحيل أبي
يصبرونها ويواسونها بين مرة ومرة بإطلاق الحلوى التي صارت لا تمسكها وتطلبهم أن يتركوها وشأنها، تجلس عند الشرفة تتأمل الباخرات الماضيات نحو الميناء أو المغادرات نحو الوجه المبتسم للبحر الأبيض المتوسط حيث اليابسة، أيام بعد الأسبوع الأول من جنازة والدها اتصل بها المدير يقدم التعازي ويطلبها أن تلتحق بمنصبها، طالبته بفاكسه الشخصي، ارسلت له طلب استقالة، استرجعت حاسوبها في صباح اليوم التالي وعادت لبيتها لتكمل أحزانها وتلملم بعثرتها وترى أوراقها المتساقطة.
نال منها الحزن مناله، ليليات بيضاء تواري دموعها، ونهارات تقضيها ملقية بنفسها نائمة وأجفانه جعلت من عيونها الخضراء عيون رمادية، شعرها الأسود صار في فوضى فلم يعد ذلك الشعر المستديل يراقص مطر ونسيم المهارات، ظل هاتفها مغلق وباب بيتها مغلق، مرت أسابيع تظهر أحيانا مع المساء تقتني جرائد وقارورات الماء وبعض المواد الغذائية،
ركنت بنفسها داخل البيت حتى صارت الوحدة وحدة والحزم حزنا والفقدان فقدان وزيادة، أسابيع في حضرة الشهر الطويل يحمل حبل المسد، صار المساء قاهر تهرب بنفسها نحو الملهى تجلس في شرفة الملهى تحتسي كوب كونياك و تتأمل البحر عن مقروبة، ظلت خلال ليليات تعود لبيتها في كل خمرة منها، تلقى بنفسها في فراشها حتى يعبر بها الليل، تستجمع نفسها بعد منتصف النهار تغتسل وتعود لتتأمل بيتها مملوء بالذكريات كل شيء فيه ينادي أمها أو أبوها.
ذات ليلة شربت بعض النبيذ، فلم يعجبها مزاجها في الملهى أو أحدهم أزعجها معتبرا إياها عاهرة، غادرت الملهى وعادت لبيتها مستلقية، فتحت كل النوافذ، صادمها بعض البكاء من الوحدة والفقدان وبكت أحست أنها وحيدة في الكرة الأرضية.
تعالى صوت أذان العشاء وسارات من الفقد تتمعنه وتستمع إليه غالبها النعاس فنامت، استيقظت مع أول شروق النهار تسارع الشارع في العابرين وضجيج الحياة، رتبت البيت وجمعت ملابس والديها وأغراضهم أحرقتهم في زقاق البيت، خافت لو تصدقت بهم أن ترى أحدهم بمعطف والدها فتبكي وكم بكت هديل كم.
أخرجت سيارة والدها سكودا سوداء من الطراز القديم مازالت بكل احتوائها العصري، نظفتها خارجيا وداخليا وجلست مكان والدها اشعلت سيجارة وسافر خيالها بعيدا تتذكر ذكرياتها رفقة والديها في تلك السيارة، غالبها المساء مع بعض الغيث قطعت شارعيين نحو نادي أخر يقدم الخمور، تناولت زجاجة كونياك وجلست بعيدا عن زحام كل الخائفين والميؤوس عنهم داخل النادي، اشعلت سيجارة وبقيت ترتشف قطرات الكونياك، حتى أحست أن رأسها ثقيل، استدرجت أدراجها نحو البيت، تناولت بعض قطع البيتزا باردة ثم بقيت تحتسي الماء حتى انهال عليها النعاس ونامت في أريكة البيت، استيقظت قبل الفجر، أحست بألم في رأسها و ثقل حاد في جسمها، نادى الإمام بالأذان فبقيت تردد مع الأذان، ثم غالبها النوم فجرت نفسها نحو غرفتها ونامت.
مرت عليها الأيام أحيانا ليليات تحتسي حتى لا ينشغل عقلها بأي ذكرى أو أي شعور، كانت تردد مع الأذان بعد كل صلاة، حتى أنها صارت تنتظره حتى تردد معه، استأنست به، لم تصلي ولا مرة في حياتها، حتى أنها حملت تسجيل الأذان وظلت تستمع إليه كلما أحست روحها حزينة وفي الفقدان أحبت الاذان وسارات تخجل حتى أن تذهب إلى الملهى، ومع الأيام أصبحت مع توقيت الأذان تخرج الشرفة لتستمع إليه حتى لو تساقط المطر، وهروبا من ليليات النبيذ صارت تتجول بسيارة والدها، لمحها نساء خارجات من المسجد بعد صلاة الجمعة ساترات بوجوههم المستنيرات.
زارت الامام بعد أيام و أخبرته أنها تستريح للأذان وما بالها الصلاة …
ابتسم الامام وقال لها
إنك يا ابنتي تكتشفين الحياة لأول مرة
دعاها الامام أن تغتسل وتضع حجابا وتلتحق بالمصليات في يوم الجمعة وتجلس في أخر قاعة الصلاة، حتى أنها صارت في كل يوم جمعة تضع الحجاب وتغتسل وتجلس في نهاية القاعة تستمع القرآن وتراهن يصلين، ومع الجمعة العاشرة لها داخل المسجد صارت تصلي معهن، بقيت شهرا كامل تصلي الجمعة وحدها وتتشوق ليوم الجمعة، مع كل أذان تردد معه، تعلمت الصلوات وصارت هديل تصلي كل الصلوات، أحست بنفسها تسحب بروحها من عمق الحزن والشتات والفقدان، أحست بخاطرها سعيدة ساجدة، أحبت كثيرا أنها تصلي وأحست حقا أنها مسلمة، تعمقت في الاسلام وعبادته وصارت تصلي بكل دوام
بعد شهرين من الصلاة والعبادات، اقتنعت أن تضع الخمار وتستر نفسها، حتى بعض أقاربها تفاجؤوا بقرارها.
أحبت هديل نفسها مسلمة مصلية، أحبت نفسها تغادر مع المصليات مع نهاية صلاة الجمعة، أحبت الأذان والقيام للصلاة، حتى أنها صارت تبكي من عمرها الذي فات، وتدعو لوالديها بالغفران.
عند نهايات الشتاء، صارت هديل نموذجا متكاملة للفتاة المسلمة تغير كل شيء في حياتها، حتى أنها استقرت في منصب عمل في بلدية أوقاس كونها إعلامية سابقة وجامعية، بل وكانت لها حصة في الاذاعة حول موضوع الدين والمجتمع، ومع نهاية الأسبوع من شهر ديسمبر يوم ممطر، عادت لبيتها تركن سيارة والدها، تتأمل بين الحين والآخر خمارها وتبتسم، احتست كوب قهوة بعدما اشعلت مصابيح البيت توضأت وصلت صلاتها، واشعلت حاسوبها حتى أحست بالدقائق الأخيرة لأذان المغرب، مثل عاداتها تجلس في كرسي أمها وتستمع للأذان وتدخل لتصلي، بعدها تقدمت لصورة والديها ألقت عليهما نظرة واحتضنت الصورة كأنها لحظة وداع، غالبها بعض البكاء، فتحت المصحف الشريف تلت بعض الآيات بصعوبة.
أحست أن أحدهم اقتحم بيتها، حملت الهاتف اتصلت بأحد صديقتها قائلة سيقتلونني،
اقتحموا بيتها توالت طعنات الخنجر صدرها، سرقوا بعض الأغراض الثمينة والسيارة وغادروا تاركينا هديل جثة تتزاحم من صدرها جروح الدماء، التحق الاسعاف والأمن متأخرين، غادرت روحها إلى ربّها.
كتب زميلها السابق في عدد الجريدة بخط بارز جدا غادرتنا هديل بوجه بشوش مشرق مثل القمر وغادرت كأنما مبتسمة سعيدة لأنها غادرت الحياة.