اللـــــقــــاء

الأكثر قراءة

افتتاح ليالي أولاد جلال للمديح والإنشاد بمناسبة الشهر الفضيل
إطلاق حاضنة المدرسة العليا للفنون الجميلة "آرتي"
وهران تحتضن ندوة حول "مسرح علولة والبحث العلمي"
فتح باب الترشح للطبعة ال8 لجائزة "كاكي الذهبي" للكتابة الدرامية
افتتاح الطبعة ال 14 للمهرجان الثقافي الوطني للعيساوة
فيلم يكشف استخدام فرنسا أسلحة كيميائية في الجزائر
عرض مسرحية "الخيط الأحمر" بقصر الثقافة مفدي زكرياء
القصبة ذاكرة وطنية حية تحتفي بتاريخها
البليدة: فتح المسرح البلدي "محمد توري" في حلة جديدة
تقديم العدد الأول لمجلة "سينماتيك" بالجزائر العاصمة

عاد بعد غياب طويل، فوجد وجه المدينة قد تغيرت الكثير من ملامحه، وهو الذي اختصر حياته في حقيبة سفر حملته من ميناء إلى آخر باحثا عن ذاته في مساحة عذاب واغتراب، المدينة كانت تغط في سبات عميق، جدران مبانيها ظلت تحتفظ بتلك الألوان الباهتة، كانت أزقتها فارغة، وقد اتسعت السماء وأضاء القمر بعضا من تلك الزوايا المعتمة لأزقتها الضيقة.

فكر مليا، وقدماه تحملانه بتثاقل إلى منزل عمه، منزل غادره ذات ليل عاصف، حتى كاد ينسى تقاطيع تلك الوجوه، كل ما علق في ذاكرته هو خروجه غاضبا في لحظة يأس، لم يستطع التوغل أكثر فقد خانته الشجاعة في لحظة ما، عادت وقفزت إلى ذاكرته صور تلك اللحظة، وسأل نفسه عن السبب الذي جعله يعود إلى ذلك البيت الذي خرج منه مطرودا ذات ليلة ماطرة.

الرجال عادة لا يذرفون الدموع، لكنه لم يستطع أن يقاوم دمعة عصية غادرت مقلتيه بعد أن تحجرت في المآقي، عاد وفكر وهو ينظر حوله وقد عرت نظراته الشوارع الفارغة، كل الفنادق محجوزة، إنها رأس السنة، فلن يؤيه أي بيت هنا، وهو لا يعرف أحدا في هذه المدينة التي بدت غريبة عنه، كما كان هو غريب عنها.

تردد وهو يقف أمام الباب، قبل أن يمد يده ويدق الجرس، بعد أن وضع حقيبة سفره جانبا، عادت تلك الأفكار السوداوية لتساوره، لكنه في الأخير قرر التحلي برباطة الجأش والمواجهة، فامتدت يده مجددا ودق الجرس، وما هي إلا لحظات حتى فتح الباب قليلا، وطلت من ورائه امرأة حسناء جميلة، وجهها الملائكي يشع نورا وضياء، وأبصر خلفها وجه طفل صغير، عيناه حدقات زرقاء لامعة.

رسمت تلك السيدة ابتسامة غامضة على شفتيها وكأنها تطرح ألف سؤال عن هوية هذا الزائر الوافد إليها في هذا الوقت المتأخر من الليل، وما إن كادت تبادر بسؤاله، حتى خلع نظاراته السوداء التي غطت عينيه المتعبتين، وأجابها بلهجة متحشرجة تخفي الكثير من الحزن والأسى.

“هذا أنا هل تغيرت ملامحي لهذه الدرجة حتى أنك لم تتعرفي علي؟؟”

“من تكون؟؟”، أجابت وهي ترسم نصف ابتسامة على وجهها الحائر القسمات.

“أنا ذلك الذي غادر بيتكم ذات يوم إلى غير رجعة، من داس والدك باقات الورود التي حملتها إليك طالبا يدك منه، أم تراكي نسيتي؟”

تسمرت مكانها وكان الدم تجمد في عروقها، وكسا الشحوب ملامح وجهها، لم تدر لحظتها أن كانت ستعاتبه أم ترحب به، وقد هربت منها الكلمات، حتى سحبها صوت الطفل الصغير، وهو ينظر إليها تارة وتارة أخرى إلى ذلك الرجل الغريب، وصاح مبتهجا أمي…أمي هل عاد أبي…؟؟”

اخترقت تلك الكلمات مسمعها كسهام غادرة، وسحبتها من شرودها، كانت كالغريق تبحث عن مساحة هواء نقي لتستعيد أنفاسها مجددا، ظل سؤال ذلك الطفل معلقا في الهواء، مدت يدها مصافحة ذلك الزائر الغير متوقع، ودعته للدخول.

“كل هذه السنوات من الغياب، تغيرت ملامحك كثيرا، وتغير العالم من حولي، توفي والدي من كان سببا في تعاستنا، وغادر إخوتي البيت مع زوجاتهم، فيما اختار زوجي معاشرة غيري، جدران وحدتي باردة لا شمس فيها سوى النظرات البريئة لهذا الطفل الصغير، لكم شدني الحنين إليك، لكنني لم أكن أدري أين رست بك سفينة الأقدار”.

تأمل وجهها بضع لحظات، ليردف قائلا: “رست بي في عوالم الضياع، البرودة، والأحلام المدمرة، حاولت أن اطوي الصفحة وأن أمزقها، لكن ثمة شيء ما ظل يشدني إليك، ظلت نظراتك تلاحقني، ودموعك التي انسابت يومها وقلبك الذي انكسر، لا زلت اذكر تلك التفاصيل جيدا”.

أحست برغبة في احتضانه علها تعيد إحياء ذلك الماضي الذي توقف لكنها تراجعت، خانتها الشجاعة كما فعلت معها أول مرة وسمحت لغيرها أن يقرر مكانها، وعاشت تقاوم الندم والحزن طوال حياتها.

“ما الذي حل بك منذ ذلك الوقت؟”، سألها وهو يستقرأ نظرات عينيها اللتان امتلأتا حزنا، وعكستا فراغا رهيبا وباهتا…. يتبع

بقلم: نادية بوخلاط من وهران

الإشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

0
يرجى التعليق.x
()
x