مِنْ رَوحِ الجًمًال

الأكثر قراءة

افتتاح ليالي أولاد جلال للمديح والإنشاد بمناسبة الشهر الفضيل
إطلاق حاضنة المدرسة العليا للفنون الجميلة "آرتي"
وهران تحتضن ندوة حول "مسرح علولة والبحث العلمي"
فتح باب الترشح للطبعة ال8 لجائزة "كاكي الذهبي" للكتابة الدرامية
افتتاح الطبعة ال 14 للمهرجان الثقافي الوطني للعيساوة
فيلم يكشف استخدام فرنسا أسلحة كيميائية في الجزائر
عرض مسرحية "الخيط الأحمر" بقصر الثقافة مفدي زكرياء
القصبة ذاكرة وطنية حية تحتفي بتاريخها
البليدة: فتح المسرح البلدي "محمد توري" في حلة جديدة
تقديم العدد الأول لمجلة "سينماتيك" بالجزائر العاصمة

من غيَاهب التاريخِ السّحيقَة، وفي أعماقِ الأزمنَة الغابرَة، هنالكَ حيثُ كان للبشريَّة وقعُها، فأنشأتِ القصُور والقِلاع والحُصون، وصَنعتْ العجَائِب والغرائِب، وأبدعَت في كتابةِ القِصص والحِكايَات ورَسمِها للأَجيَال اللاّحقَة..

تتالَت العُصور فِي دَوراتِها الزمنيّة العظيمَة، تُرسل لنَا عبَر سَلاسِلِها مَا بِتنَا نَكتَشِفُهُ يوماً بعدَ يوم، فِي سَبرِنا لأَغْوارِها العميقَة عبَر الرَسائِل الخفيّة في كلِّ التَفاصِيل الدَقِيقَة المرسُومة فيمَا خلّفَته وصَنَعته..

تحدّثنا القِصص والحِكايَات عنِ السّحرِ والفِتنةِ التي تميَّزت بِها عذْراوَاتُ التاريخِ على مرِّ العُصور، وكانَت تِلك الصّفَات تَرسمُ في المِخيَال الجَمَاعيّ لِكل مُجتمَعٍ صورةَ الحَسناءِ التِي تُريدُ كلُ فتاةٍ أنْ تكُونَها، وتَتَعددُ صفَات الأنُوثَة والجَمَال والرِّقة، فتَتَمثّل في القَوَام الرّشِيق والقدّ الدّقِيق، وتَكونُ في سمُرةِ العُيون وارتِخاءِ الجُفُون، وتَتَعَدى هَذَا وذَاك، إلى الشَّرفِ الأَصِيل والحيَاءِ الجَمِيل..

مَا بَيْن الشَّعرِ الفَاحِم أو الأَشقَر، النَّاعِم أو الكَثِيف، تَتَعَدى الرِّوايَات والحِكَايَات لِتَصنَع مِن هَذِه العَذْراءِ الخَالِدَة مَلاَكاً لا يَنَالُها إِلا أشْجَع الفُرسَان وأَعظَمُ الرّجَال..

لكنّها إذَا اجتَمعَت تَلاقَتْ فِي كَونِها أَعطَت لِهذَا الجَمَال الأُسطُورّي بُعدًا رُوحيّاً طبيعِياً بسيطاً.. مُتَحرراً مِن أيّ تعْقِيد.. بَعِيداً عن أيّ تَكَلُّف.. فَلَا نَعرِفُ عَن أُولَئِك الفَاتِنَات، فِي حَفَاظِهِنّ عَلى جَمالِهنّ سِوى الكُحلِ والمَاءِ البَارِد ورِداءٍ حرِيريّ سَاتِر يَهبُهنّ سِحر المَلائِكة.. فكَانَت مِنْهنّ “لُونْجا” و “عرُوس الأَوراس” وفَتاةَ “بقرةِ اليتَامَى” و”الجَازِية” وغَيرهُنّ مِمنْ تَرنّمت بِهنّ الجَدّات فِي لَيالِي الشِتَاء الطَوِيلة..

كانَ الجَمَال الذِي يَحكِي عَنْه الماضِي، جَمَالاً فِطرِيّاً عُذريًّا بَهيًّا، تَرسُمُه الطَبِيعَة عَلى الشِفَاه والخُدُود، فيَظَلُ حيًّا رَاسخاً مَهْمَا تَقَدمَت بِه السِنِين، كَمَا يُقَال عَنهُ جَمَالُ أُمِيرَاتٍ أُسطُورِيَاتٍ مِنَ الزّمَن الغَابِر..

جَمَالٌ يحفُّهُ الطُّهر ويُكَلِّلُه الشَّرَف، ويَزِيدُ الحيَاءُ من جَاذِبيتِه، كَمَا تَرفعُهُ الفَصَاحةُ والأَدَبْ والبَلاغَةُ إلى أَعلَى مُستَوَيَاتِ الأَلَق والجَلَال.. ويَرسُم عَليهِ حُسنُ الصَّوتِ التَفَاصيلَ الأَخِيرَة..

خلّدتْ هذَا الجَمَال أسَاطيرُ الآلهةِ واليُونَان، وحِكَاياتِ الفَراعِنَة والمِصرِيِين، وَصَفَتْهُ قِصَصُ ألفِ ليْلةٍ وليْلة، وحِكَاياتُ الجَدّاتِ في مُختَلَفِ الرُّبوعِ والأَقْطَار.. سواءٌ كانَ المسْرحُ قصراً، كُوخاً، مَزرعةً، بَاديةً، صحراءَ، قلعةً، خيمةً، أو حَتى كهفًا فِي جَزِيرةٍ مهْجُورة..

فِي تِلكَ الأَزمِنَة البَهيّة كُلُ فَتَاةٍ كانَتْ أمِيرةً جَميلَة بالفِطرَة، مُنذُ سَنَوَاتِها الأُولَى، تَعِيش لَحظَاتِ السَّعادَة والفَرحْ، تُطَاردُ الرِّيَاح وَسَط السُّهُول غَيرَ عَابِئَةٍ بالمخَاطِر، تَنْسُج مِن بَاقَةِ الوَردِ إَكْلِيلًا تُزيّنُ بِهِ رَأْسَهَا، تَلعَبُ بالتُرَاب والوَحْل بِكُلِ بَرَاءَة، تَركَب عَلَى ظَهْرِ مَاعِز أَو مَهْرٍ صَغِير والفَرَح جَلِيٍّ عَلَى مُحَيّاهَا البَرِيء..

تَبتَسمُ للحَيَاة بكُلِ أَمَل ورَجَاء، تُغَازِل القَمَر فِي اللّيَالِي الصَافِيّاتِ، وتَعِيشُ قِصَص الحُبِ والحَنِين بِكُلِ عِفةٍ وصَفَاء، وإذَا أَهْدَت قَلْبَها كَانَتِ الوَفِيّة المخْلِصَة فِي حُبِّهَا.. عَاشِقَةً صَادِقَةٍ فِي هُيَامِهَا..

تَغَيَّرَت مَقَايِيسُ الَجمَال فِي عَصرٍ طَغَت فِيهِ المادَة التَفَاهَة، ضَارِبَةً بالأُسطُورَة عُرضَ الحَائِط، رَاسِمَةً للجَمَال مَعَايِيرَ دَقِيقَةً تَتَغيّرُ مَع كُلِّ مَوسِمٍ وعَام.. فَتَتَغيَّر الأَلوَان والأَزْيَاء وأَدَوَاتِ الزِّينَة والتَفَاصِيل الدَّقِيقَة.. وَتَلْهَثُ الفَتَيَات وَرَاءَ الجَدِيد وَآخِرِ الصَّيحَات والصَّرعَات، مُتَّخِذَاتٍ مِن فُلاَنَة الُمغَنّية وعِلانَة الُممثِلة أُسوَةً ومِثَالاً..

وكُلّمَا زَادَ التّعقِيد والتكلُّف زَادَ البَهَاءُ والجَمَال، وَصَارَت القَادِرةُ عَلى إِهدَارِ أَمْوَالِها فِي مُوَاكَبَة أَمْوَاج الموضَةِ والتَّبَرج الُمتَلاطِمَة هِي الأَجْمل وَالأَحَبْ إِلَى شَلّتِهَا ورَفِيقَاتِها والأَفْضَل فِي لَفْتِ أَنظَارِ الرِّجَال والفَوزُ بِإعْجَابِهم واِسقَاطِهم فِي الشِّرَاك..

الجَمَال الحَقِيقيِّ.. لَحظَةُ بسَاطَةٍ وعُنفُوان.. يُحسِنُ الُمصّورُ التِقَاطَهَا والشَّاعِرُ وَصفَهَا والفَنَّانُ رَسْمَها.. تُثِيرُ النَّفْس والقَلْبَ إِعجَابًا وإِجْلَالًا.. لِأَنَّهَا سِحْرَّية سَرْمَديّة.. سِرُّ جَاذِبِيّتِها.. صِدْقُها وبَسَاطَتُها..

بقلم الكاتبة الروائية: نور بن دادي

الإشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

0
يرجى التعليق.x
()
x