ضرورة بعث فكرة فيلم عن الأمير عبد القادر؟ خبر سار جاء من أعلى هيئات الدولة الجزائرية. أمنيتنا جميعا أن يتم تجسيد هذا الحلم الكبير الذي رُصِدت له، في العشريات السابقة، أموال كبيرة نهبت بهدوء وسكينة حتى أفرغ حساب الفيلم كليا، ولم ينجز أي شيء، إلا سيناريوهات مرمية في المكاتب الباردة، وألبسة فصلت للفيلم وكلفت المليارات ثم رميت في الزوايا الرطبة حتى علاها العفن. ولم يكن تعاقب مختلف وزارات الثقافة إلا فرصة للمزيد من التبذير والنهب لدرجة أن تم الاستيلاء على فكرة الفيلم وتجييرها لما يخدم مصالح الوزير وحاشيته التي تحتسب بأمره، وتنتظر تلقي حصصها الريعية بأسمائها الحقيقية، أو بأسمائها المستعارة. نتمنى أن تخبرنا لجان البحث القضائية التي سخرت للبحث في القضية عن الأرقام الحقيقة المنهوية. دون أن يظهر في النهاية اي فيلم عن الأمير. وتم تطفيش كل المخرجين الذين كانوا قريبين من المشروع، لخضر حامينا، أوليفر ستون، كوستا غافراس، ريدلي سكوت. لا أذكر المخرجين الصغار الذي أوكلت لهم مهمة الإخراج الفاشلة.
لهذا يكون من الأجدى تجفيف السبخة التي أغرق فيها الأمير، وأغرقت فيها كل المشاريع التي اقتربت منه. بالوعة مال وبالوعة أفكار لم يتم تجسيد أي واحدة منها. فترات الطفرة المالية التي عاشتها البلاد جعلت جوقة السراق تتكاثر، لكن أنانيات الاستنفاع جعلت أيضا الأطراف تفضح بعضها بعضا. لنقل إن الفكرة هذه المرة جادة من حيث النية، لكن من حيث الفعل ستصطدم بسلسلة من التعقيدات. من ناحية السيناريو: اي امير نريد؟ أميرا كما ترسمه المدرسة بعد أن قصت أجنحته وحولته إلى محارب خارق بحصانه الذي لا يكل ولا يتعب؟ أمير إسلامي يخوض حربا ضرورية ضد المستعمر النصراني؟ أم أميرا ببعد إنساني أعمق، مدافعا عن بعده الحضاري المتنور ومنفتحا على ثورة صناعية كانت قد غزت العالم ودخل غمارها، لكن الظرفية لم تسعفه للذهاب بعيدا في تصنيع أسلحته الدفاعية.
كيف يعبر السيناريو عن سماحة الأمير وتدينه الصوفي العميق، وعن إنسانيته التي مارسها فعليا وأنقذ من خلالها 15 ألف مسيحي في 1860، معطيا بذلك درسا في التسامح الديني، ومقدما صورة نموذجية عن المسلم ذي الروح الواسعة التي جلبت إليها أنظار الدول ورؤساء وملوك وحركات ذلك الزمن، وتلتفت نحوه بالكثير من الاحترام والإعجاب، من بين هؤلاء الحركة الماسونية التي يجب النظر إليها في زمانها ووقتها وليس بمنظور اليوم. علما أن الأمير ابتعد عنها بعد وفاة نابليون الثالث الذي ظل يدين له بحريته. دون نسيان منفاه في تركيا، بحثا عن أرض قريبة من قلبه وقناعاته الدينية، فذهب إلى بوصا، لكنه بعد أقل من سنة وجدها أرضا مغلقة على الدوغما العثمانية، بالمعنى العرقي، فارتحل إلى دمشق، وهناك رفض أن يظل معزولا فأصبح فاعلا في المجتمع السوري بدروسه في الجامع الأموي، وفي الحركة النضالية القومية وقد كان الثمن غاليا غير المضايقات، فقدانه لأحد أبنائه الذي شنق في المرجة بوصفه معاديا للتريك ولطغيان جمال باشا السفاح.
هذا جزء يسير من سجله التاريخي الذي يجب أن يظل حاضرا. قبل أن يتفرغ للعلم والثقافية والكتابة والصوفية التي أصبحت مسلكه في الحياة محتذيا لطريق الشيخ الأكبر ابن عربي، وللحوارات الإنسانية الكبيرة، حول الحرية وحقوق الإنسان والعلاقة بالحيوان والطبيعة. من المؤكد، ستحاول الرقابة المتخلفة والجامدة أن تجحم من الأمير وتصنّع أميرا صغيرا ومغلقا على نفسه، لترضي رؤيتها الضيقة. وهذه ربما واحدة من المعوقات والمضار التي ستقتل الفيلم المحتمل إذ لم يتم تحييدها والثقة في المثقف الجزائري وقدراته على الحفاظ على جزائريته ووطنيته واندراجه في سياق الإنسانية. على الرقيب الصغير ان يتحمل قليلا حرية الأمير التي امتاز بها طوال القرن التاسع عشر. نعم رؤية الرقيب أقل بكثير من أمير اخترق زمنه كليا وعاش عصره بامتلاء.
سؤال كبير آخر، ضحكت وأنا اقرأ إحدى المقالات أنهم عثروا على ممثل يشبه الأمير. وكأن المشكلة الكبرى هي هنا. استغرب من هذا المنطق الغريب الذي ما يزال حبيس سينما الثلاثينات. لقد أصبحت السينما اليوم صناعة، اي كل شيء يخضع لسلسلة من القواعد الاساسية. هل كان الممثل الذي أدى دور غادي يشبه غاندي. لا علاقة إذا رأيناه في افلام أخرى. الماكياج صنع منه شخصية شبيهة للدور الذي اعتنقه قبل أن يمثله. الممثل الذي أدى دور هتلر في السقوط، هل كان يشبه هتلر؟ لقد أعيد تصنيع وجهه في المخابر حتى أصبح متطابقا أو كاد، ثم هل كان أنطوني كوين يشبه عمر المختار أو حمزة في الرسالة، طبعا لا، لكن الحرفية في العمل الفني جعلته شبيها. الرهان الكبير كان على الممثل العالمي القدير الذي يعلي الفيلم ويرتفع به نحو العالمية، هذا هو الأساس.
السؤال الأكثر قلقا ربما، والأهم في سياق هذا المشروع، هو هل نريد فيلما وطنيا ينتهي، كالعادة، في العلب بعد عروض داخلية محدودة وبائسة، في غياب مفجع لتفعيل قاعات السينما التي نهبت منذ الاستقلال، أو دمرت دون أن تحرك الدولة ساكنا لتقول باسطا؟ أم نريد فيلما عالميا بمستوى شخصية الأمير الإنسانية الواسعة، يعرض في القاعات العالمية ويشارك في المهرجانات السينمائية الدولية، وهذا يقتضي حتمية المرور عبر كاستينغ عالمي: بخاصة المخرج والممثل الرئيسي. دون ذلك ستنتج الجزائر فيلمها عن الأمير الذي سيعرض عبر القنوات الوطنية بمناسبتي مبايعة الأمير تحت الدردارة وموته، ثم يعاد من جديد للنوم في العلب المظلمة كما كل الإنتاج السينماتوغرافي الوطني باستثناء معركة الجزائر وسنوات الجمر.
أسئلة قد تكون مقلقة، لكنها نابعة من سلسلة من التجارب الفاشلة، والإحباطات المتكررة حول فيلم الأمير، لا نريدها أن تتكرر، لدرجة أن أصبحت ميراث شؤم لكل رؤساء الجمهورية الذين مروا على الجزائر، لكل واحد منهم أميره وميراثه من الفشل في تجسيد فيلم الأمير، من الرئيس أحمد بن بيلا حتى اليوم. “نشد على الخشب” هذه المرة ونتمنى للمشروع كل التحقق، وللأمير الذي استطاع أن يجعل من قادته في تلمسان، في معسكر، في مليانة، في ببسكرة، في منطقة القبائل، في وهران، وفي غيرها، إخوته في معركة التحرير الصعبة، كل الراحة والسلام.
حرّره: الروائي واسيني الأعرج