مع المساحة الفارغة وكوميديا ديلارتي وضد العلبة الايطالية
مسرحيتا: الزهاد وجحا، نموذجا…
أ/عبد الناصر خلاف، الجزائر
شهدت العروض المسرحية الجزائرية إبان مرحلة الاستعمار بين فترة الأربعينيات إلى الخمسينيات طردا من قاعات المسارح، باستثناء بعض العروض المحتشمة للفرقة العربية التي كان يديرها محي الدين بشطارزي ـ وأغلب الأعمال الأخرى كانت تهرب إلى الساحات العمومية والشوارع والأسواق وكانت مبطنة: ظاهرها ترفيه وباطنها نضال وتوعية.
بعد الاستقلال وعلى إثر تجسيد تأميم المسرح الوطني الجزائري، عاد المسرح إلى جمهوره خاصة مع الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني التي كان يشرف عليها مصطفى كاتب، ومع ظهور اللامركزية اتسعت دائرة هذه العروض إلى جماهير أخرى ومدن أخرى.
(إن المسرح، إذا ما افتقر إلى الجمهور يصبح مفتقرا لوجوده، فالجمهور هو التحدي وبدونه تبقى الصورة كاذبة((1)
وإلى غاية فترة السبعينات ومع التوجه الاشتراكي – الذي أضحى لا رجعة فيه- وخدمة للثورة الثقافية والزراعية والصناعية، توجه بعض المشتغلين في الحقل المسرحي إلى تكريس هذا الخطاب السياسي والتوجه إلى الجماهير في الساحات العمومية والقرى الاشتراكية والمصانع ومنهم : كاتب ياسين وعبد القادر علولة…
وأما في بداية التسعينيات ومع الظرف السياسي والأمني الذي شهدته الجزائر، فقد توارى العمل المسرحي بشكل رهيب، حيث أدى الخوف ببعض المسارح إلى إغلاق أبوابها في وجه الجمهور وتحولت إلى منابر سياسية واستفحل الأمر مع اغتيال كل من الراحلين عز الدين مجوبي، وعبد القادر علولة.
في بداية الألفية الثانية عاد المسرح إلى الواجهة بإرادة سياسية قوية، من خلال دعم الدولة الكبير للإنتاج المسرحي وتأسيس الكثير من المهرجانات المسرحية التي فعّلت المشهد الثقافي الجزائري، بحيث أنتجت الكثير من الأعمال داخل القاعات وأنجزت أعمال أخرى موازية بحكم البحث والتجريب…
وبالرغم من هذه الظروف، إلاّ أن بعض الفرق ظلت تشتغل، مثلما ما هو حال تعاونية التاج لمدينة برج بوعريريج التي لديها ريبتوار مسرحي معتبر، حيث قامت بإنتاج عملين:
الأول– الزهاد وهو عمل طقسي في مساحة فارغة يعتمد على الرؤية البيتربروكية*
والعمل الثاني هو جحا الذي أنجز برؤية كوميديا ديلارتي ضمن تجربة مسرح الشارع.
والسؤال الذي يفرض نفسه لم هجرت هذه التعاونية العلبة الايطالية واتجهت إلى فضاءات أخرى؟ هل هذا التوجه مبني على أساس التجريب؟ أم للضرورة المسرحية؟ ثم لماذا توقفت هذه التجربة وعادت التعاونية بعدها إلى إنتاج عروض داخل العلبة الإيطالية؟
1 ـ الفضاءات شبه متوازية
حين ندرس حالة الأمكنة التي كان المسرح يؤثثها في الجزائر خلال مرحلة الثورة، نجده يتحرك على مستوى ثلاثة خطوط شبه متوازية، وهي على النحو الآتي:
الخط الأول:
المسرح العربي: الذي كان يشرف عليه محي الدين بشطارزي ويتقاسم الفضاءات نفسها المخصصة للمسرح الكولونيالي في دار الأوبرا، معتمدا على خطاب مسرحي مهادن لتمرير مجموعة من الرسائل التي في اعتقاده تشكل وعيا وطنيا وارتباطا قويا بالهوية.
الخط الثاني:
المسرح الثوري: الذي أشرف عليه مصطفى كاتب والذي استفاد من فضاءات العرض خارج الجزائر في بلدان صديقة وشقيقة والمتمثلة في الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، حيث استطاعت هذه الفرقة الخروج من فضاء العلبة الايطالية الكولونيالية، وتحول المسرح إلى فن حقيقي يسخر للحرب عند محمد بودية ورفاقه كما يقول الدكتور أحمد شنيقي، وقد عرفت الفرقة ازدهارا كبيرا بحكم المكان تونس 1958 / 1962 في تعميق الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت بمثابة المنبر الذي يعلو منه صوت الشعب.
الخط الثالث:
الفضاءات المغلقة والمفتوحة:
اقتحم المسرح فضاءات بعيدة كل البعد عن قاعة المسرح المتعارف عليها، وراح يلج الأماكن الصارمة والمنعزلة مثل السجن أو مؤسسة المراقبة والمعاقبة بتعبير ميشال فوكو. وفي هذه المؤسسة قدم بعض رجال المسرح الجزائري عروضهم مثلما فعل الفنان حسن الحسني المدعو” بوبقرة “، الذي يقول عنه الصحفي والباحث بوعلام رمضاني في محاضرة ألقاها في المهرجان الوطني للمسرح المحترف 2006 إنه أنموذج الممثل الشعبي الآخر الأقرب إلى الروح الجزائرية القروية، حيث قدم عملين حين كان مسجونا بمعتقل اركول بوهران سنة 1957وهما: مسرحية ” تقول وتقول با “ومسرحية: “كردافو”:)والتي تعني أداء التحية العسكرية والتي جرت حوادثها في يونيو 1959 عندما فرضت الإدارة الجزائرية على المساجين أداء التحية للجنود الفرنسيين( (2)
كما توزعت خارج المدن فئة المداحين في الأسواق الشعبية أو المناسبات الدينية مثل المولد النبوي الشريف، وشهر رمضان معتمدين على مادة الحكاية الخرافية والأسطورة والسير الشعبية وقصص تشمل كرامة الأولياء الصالحين معتمدين على النثر والشعر والغناء والتمثيل، كما كان هؤلاء يشتغلون خلال حفلات الأعراس وكان المداح يتحول إلى سارد وممثل ومغني لإيصال خطابه للجمهور، خطاب حاصره الاستعمار الفرنسي وقلص من فضاءاته ومارس عليه الرقابة حتى خلال الأعراس والحضرات، حيث لم يكن الاستعمار الفرنسي يسمح بالنشاط المسرحي المرتبط بالعمل السياسي ولو تلميحا.
بعد الاستقلال وبتاريخ 8 جانفي1963 تم تأميم المسرح ليكون في خدمة الجماهير وهذا بمقضي مرسوم رقم 12 /63 وتقرّر تأسيس فرقة المسرح الوطني الجزائري، والمكونة من عناصر الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني وتم تعيين مصطفى كاتب مديرا للمسرح الوطني.
عاد الممثلون بالتالي إلى معمارية أرسطو بعدما تم نفيهم لمدة طويلة منها، بأعمال ترتكز على جماليات الخطاب الثوري والتي اعتمدت على الريبرتوار الثوري. وبعد هذا التأميم جاءت مرحلة ثانية، هي تطبيق سياسة اللامركزية وشملت إعادة فتح مسارح جهوية في فترات زمنية مختلفة.
إن فضاء العلبة الايطالية بعد سنوات الاستقلال صار صوتا للتاريخي والسياسي والرسمي. لكن في بداية السبعينات ومع التوجه الاشتراكي الذي تبنّته الدولة الجزائرية، انتقلت بعض الفرق في إطار سياسة الذهاب إلى الجمهور إلى عدة فضاءات مفتوحة لتوسيع الحركة المسرحية في الوسط الجماهيري، مثل: المزارع والقرى الاشتراكية، وهذا ما قام به المرحوم عبد القادر علولة، ربما هذه التجربة النضالية هي التي جعلته يكتشف سحر الحلقة، وتلك العلاقة الحية بين المتلقي والعرض، حيث كانت عروضه في غياب قاعات خاصة، تعرض في قرى معزولة تقدم في مساحات فارغة ويلجأ إلى السرد بدل التشخيص، وإعادة الكثير من التغيرات الإخراجية وحتى الاستغناء عن الديكور لتقديمها كما صرح في حوار له هو شخصيا للباحث في علم الاجتماع محمد جليد. وشبيه بهذا ما قام به كاتب ياسين الذي استفاد من فضاء المصانع لتقديم مسرح عمالي وشعبي.
وبالرغم من الاتجاهات الجديدة: ) ظل المسرح الجزائري يعتمد على تقنية المسرح الأوربي في تقديم عروضه للجمهور، وهذا ما بعد الاستقلال رغم وجود المداح الذي ظل يمارس نشاطه في الأسواق والساحات العامة بعيدا عن الأضواء) (3) ….يتبع
المراجع
1- بيتر بروك، الشيطان هو الضجر ، تر: محمد سيف، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2006ط 1، ص 8.
2- أبو القاسم سعد الله : تاريخ الجزائر الثقافي مرحلة 1954 و1962، دار الغرب الاسلامي، ط1 ص 350.
3- أحمد بيوض: المسرح الجزائري 1926 إلى 1989،منشورات التببين الجاحظية الجزائر، ص 168.
algeria13@gmail. com