المحروسة لا تشبه غرناطة” الروائي بلقاسم مغزوشن”

الأكثر قراءة

افتتاح ليالي أولاد جلال للمديح والإنشاد بمناسبة الشهر الفضيل
إطلاق حاضنة المدرسة العليا للفنون الجميلة "آرتي"
وهران تحتضن ندوة حول "مسرح علولة والبحث العلمي"
فتح باب الترشح للطبعة ال8 لجائزة "كاكي الذهبي" للكتابة الدرامية
افتتاح الطبعة ال 14 للمهرجان الثقافي الوطني للعيساوة
فيلم يكشف استخدام فرنسا أسلحة كيميائية في الجزائر
عرض مسرحية "الخيط الأحمر" بقصر الثقافة مفدي زكرياء
القصبة ذاكرة وطنية حية تحتفي بتاريخها
البليدة: فتح المسرح البلدي "محمد توري" في حلة جديدة
تقديم العدد الأول لمجلة "سينماتيك" بالجزائر العاصمة

“المحروسة لا تشبه غرناطة”

كانت السّماء سِنجابيّة في تلّة بوزريعة ولا تسمع سوى خشخشة العشب المستحلس، المستعصي لكنس الخريف المائل إلى العري. ما إن انتهى أذان صلاة العصر في القصبة، حتّى ارتّعدت فريصة مُولْ النَّاظُورْ وارتّجفت يداه و خرجت حدقتَا عينيه وأحسّ أنّ ساقيه خارتَا من هول ما شاهده في أفق البحر من جهة رَأْسِ يَهُورْ، بين قمّة شَنْوَة وسِيدِي فَرَّجْ. اختلط عليه حساب ما رأى في ثنايا الأمواج في موكب السّابحات الجّارفات نحو اليّابسة. فكّ رباط حصانه البنّيّ المسرّج جنب شجرة الخرنوب، ثمّ امتطاه على عجل وأوشك قلبه أن ينفلت من حنجرته. حتّى عمامته الصفراء نسيها من شدّة الفزع. انطلقت حوافر حصانه وكوّنت سافية من الغبار عبر مسالك الغابة والحدائق في ركضٍ جنوني باتجاه مدينة في خطر لا غبار عليه. يوم أَرْوَنَانِي وقَدر مجهول الخواتم. الوقت في الوغى كالسّيف، إن لم تستله من غمده في الوقت المناسب، غدا غنيمة العدوّ بعد سفك دمك. أشياء عبثية تسلّلت إلى ذهنه و ما كان يخشاه أهالي الجزائر أن يشتّت ملّتهم و يقضي على حياتهم البسيطة في وكرٍ ليسوا بصانعيه، بلْ وُجودهم تحت جناح الدّولة العلّية عرَّضهم دائمًا إلى نيران الغارات البّحريّة الأوروبيّة لمعاقبتهم على احتضان الأتراك وريّاس البحر.

عندما وصل إلى مدخل القصبة من جهة باب الوادي، طلّق مُولْ النّاظور عِنان الجواد وتدحرج من على ظهره بخفة شبابه، تاركًا الدّابة عند الحرّاس تسترجع أنفاسها. جرى مُولْ النّاظور بسرعة فائقة عبر شرايين القصبة، التّي بها منازل بيضاء مبنية قريبة جدًا من بعضها البعض، إذ جدرانها على بعد قبلة و لمسة تغازل زُرقة اليمّ السّرمديّ. اخترق مُولْ النّاظور حومة الجنان وحومة الجْبِيلَة وسوق البابوجية والبادستان. وأخيرًا بلغ عتبة قصر الجنينة وفي جعبته خبر قد يبعث بالقصبة العتّيقة قبّةً على كَوْثَل.
كان لباب قصر الجنينة الخشبي أطر رخاميّة مزخرفة برسوم ملوّنة ترمز إلى أزهار الأقحوان والياسمين والزَّنْبق والقرنفل. حراس الباب من اليولداش تعرّفوا على مُولْ النّاظور و قام واحد منهم بإدخاله إلى مكتب الدّيوان في الطّابق الأرضي، حيث كان يتواجد حسن آغا و شيخ المدينة يتناولان أمورًا شتّى..
وقف حسن آغا و هو يدري بأن مجيء مُولْ النّاظور لاهثًا و عاري الرّأس لا ينبِّئ بالخير إطلاقًا.
– النّذير.. النّذير! مولاي.. مولاي !
– ما الأمر يا مُولْ النّاظور؟ هدِّئْ من روعك.
– لقد رأيت من أعالي المدينة سفنًا كثيرة. كدّت أن لا أميّز بين أمواج البحر. حلّت السّفن مكان الأفق المائي من جهة رأس يهور، غربي القصبة .
التبك حسن آغا لبرهة، راميًا نظرات الحسرة على وجه شيخ المدينة الّذي قام بدوره وهو شَجِبْ، نظرًا لخطورة موقف السّاعة.
– أسمعت يا السي الشريف؟
– أجل يا سيدي السلطان. إنّهم أعداء الإسلام .
– أتعرّفت عليهم؟ وكم عددهم؟ سأل حسن آغا وافد بوزريعة.
استرجع مُولْ النّاظور شَقّ أنفاسه وعرقه بدأ يبرد فوق بشرته السّمراء وقلبه بدأ يعود إلى خفقانه العادي.
– لقد حاولت العدّ و لكن ذُهلت لأعدادهم الهائلة. سفن شامخة كالجبال. المئات. ربّما الإسبان.
– الإسبان! الأوغاد ! جاؤوا لينتقموا للهزيمة النّكراء الّتي مُنِيوا بها على يد قائدنا و أبانا خير الدّين في معركة بحر بروزة Preveza قبل ثلاث سنوات. يهاجموننا و هم يدركون أنّ الباشا خير الدّين موجود بجوار السّلطان سُليمان في سطنبول.
– إنّنا في خطر لا نحسد عليه، اعترف مُولْ النّاظور.
– لقد أصبتَ، تكلّم الشّيخ سيدي سعيد الشريف، حين أمرتَ وأَصْرَرْتَ على تحصين أسوار مدينة بني مزغنّة وتنصيب المدفعية صوبي البحر والبرّ. وكذلك طلبك بإحصاء الرّجال القادرين على حمل السّلاح كان أمرًا في غاية الدّهاء. وكلّ هذا ثمرة تجربتك يا سيدي السّلطان..
خرج حسن آغا بسرعة من مكتب الدّيوان ثمّ صعد إلى سطح قصر الجنينة لتقصِّي وضع خليج الجزائر. تبعه شيخ المدينة و مُولْ النّاظور. انتبه جنود و خدم القصر إلى توتر حسن آغا على غير عادته. داخل ميناء البّنيون، شيء أوحى بدنوِّ أسطول الصّليب. عجّل يولداش الميناء بإرجاع العبيد المسيحيّين إلى سجون القصبة عبر باب الدّزيرة لكي لا يتمرّدوا بمجرد اقتراب سفن أقطارهم الأصلية. أمّا الصيّادون فقد سارعوا إلى ركن قواربهم كيفما جاءت، تاركين شباكهم دون أن يأبهوا إلى ترتيب وسائلهم و أخذ الأسماك التّي اصطادوها. كلّهم هرولوا إلى باب البحر للاحتماء بسِيران القصبة العزيزة المنال. لاحظ حسن آغا أنّ بعض أسطح المنازل امتلأت بساكنيها، لقتل فضولهم قبل أن يُقتَّلوا لو تسقط مدينة جُزر النّوارس بين أيدي الغزاة. خافوا أن تنقلب عليهم الدّنيا و يأخذون أمكنة العبيد في سراديبهم الدّلماء والمتعفّنة. التفت حسن آغا إلى شيخ المدينة، ثمّ قال بنبرة قلقة:
– لم يصلوا بعد إلى المرفأ يا السي الشريف. استدعِ حالًا جميع القادة، وأُؤْمُرْ المؤذّنين بإبلاغ السكّان بالتزام أماكنهم المتّفقة عليها من قبل لصدّ أي هجوم أوروبيّ. و قُلْ لخوجة الخيل بسرج حصاني الأبيض لأجول به المدينة بعد المجلس الحربي. و ابعثوا الخيّالة إلى بوزريعة للتّدقيق في الأمر. لا وقت لدينا. أرجو أن ينصرنا الله.
– إن شاء الله. فلقد هزمنا الإسبان على مرّتين حين هاجموا مدينتنا المباركة. إنّها المحروسة بالله.
انصرف شيخ المدينة إلى المهمّة الموكلة إليه عجولًا في جبّته.
– هل أنت مستعد للقتال يا مُولْ النّاظور؟
– بالطّبع يا مولاي. سنلحق بهم الهزيمة بإذن الله. سنتدفأ بأخشاب سفنهم هذا الشّتاء وأشرعتهم سنفترشها لدوابنا و جثثهم سنناولها لذئاب الغابات.
– لقد أضحكتني يا مُولْ النّاظور. أجل، سنذيقهم طعم النّدم على جرأتهم المخادعة. فأعدادهم الكثيرة لا ترهبنا إطلاقًا، إذ يظنّون خطأً أنّ التّفوق العددي سيرجح كفّتهم. يجب أن نتحلى بالرّجولة والصّبر على حدّ سواء. فمنذ طرد الإسبان من البِنيون وأنا متيقِّنٌ أنّهم سيبحرون للثّأر من هزائمهم المتتالية.
خارج أسوار القصبة، غادر الفلّاحون وعبيدهم المزارع للالتحاق جريًا بأبواب المدينة وهي على محكّ المحنة الآنية. لا بديل لآمان قلعة بني مزغنّة في أيام الحرب والدّمار ورعد المدافع المتشابكة في البحر والبرّ. لا خيار أمام الأهالي سوى الاستماتة إلى آخر نفس لتفادي مخلّفات المعارك القاسية في زمان القرصنة المتبادلة على ضفّتيّ بحر الصّليب والهلال. والويل للمهزوم.
لم تمضِ ساعة حتّى فاضت قاعة ديوان قصر الجنينة بقادة القصبة وأعيانها في ضوضاء ممزوجة بالهلع . لم يتوقعوا من الأوروبيّين شنّ حملة بحرية على سواحل شمال إفريقيا في الخريف، المعروف بالتقلّبات الجوّيّة و العواصف البحريّة التّي عادة ما تُهين السّفن بأمواج تطّلع إلى الأشرعة لغسلها بضربات مائية موجعة. مالحة.
دخل حسن آغا إلى مجلس الدّفاع الحربي المتواضع بخطى مستعجلة. عيون الحضور استقبلته بارتّعاب.
– هل من أخبار أكثر دقّة يا قادتي الأشاوس؟
تقدّم الشّيخ سيدي سعيد الشريف بلحيته البيضاء و السّيف يدلي من على جنبه الأيمن:
– سيدي السّلطان، إنّ الوضع جدّ حرج. خليج يهور يعجّ بسفنهم و يبدو أنّهم لم يحدّدوا بعد نقطة الإنزال. إنّهم الإسبان والإيطاليّون والألمان وفرسان مالطة. الصّليب يعلو أسطولهم. إنّها حملة صليبيّة.
– و ما حال سكّان القصبة؟ هل تحسّستم منهم الاستعداد للمساهمة في ردّ هذه الغارة المسيحيّة؟
– نعم، أجاب قائد الجيش الحاج بشير أياباشي. لاسيما الموريسكيّين الّذين يسعوْن للانتقام من طردهم المهين من الأندلس. حتّى زوجتي الموريسكيّة فإنّها متشوّقة لشرب دم الإسبان الّذين شردّوا عائلتها بالأمس القريب. أتدرون ماذا باحت لي زوجتي ؟ عجوز موريسكيّة من غرناطة من أوائل الرّاسيات بمدينة الجزائر منذ أزيد من أربعين سنة، تنبّأت بهزيمة الإسبان في ثلاث غارات بحرية. كما تعلمون انهزموا لحدّ الآن في اثنتين. غارة دِيَغُو دِي فِيرَا Vera de Diego صدّها بابا عرّوج رحمة الله عليه، أمّا الهزيمة الثّانية لهِيغُو دِي مُونْكَادَا Moncada de Hugo فقد كانت على يد المجاهد العظيم خير الدّين حفظه الله.
تساءل القائد أرسلان، الواقف علي يسار بايلار باي الجزائر:
– و من يتجرّع الهزيمة الثّالثة ؟
– الثّالثة.. حسب المنجّمة الموريسكيّة، الحملة الثّالثة ستدحر خشبًا على ماءٍ رغم خوضها من طرف أمير كبير.
– شارلكان! صرخ تلقائيًا يوسف بلكباشي، مفجرًا حناجر الدّيوان بتكرار اسم إمبراطور أوروبا.
– جزّار غزو تونس! فرّغ صفر بلكباشي جرّة غليانه، الّذي كان واقفا على يمين حسن آغا، آملًا أن يخبّ البحر كيد النّصارى.
بعدما استمع حسن آغا لسجال قادته و أعيان المدينة و الريّاس، وجب عليه الآن اختزال الوضع ورسم خطّة الدّفاع قبل أن يجنّ اللّيل. عيناه مازالتا تلمعان عنفوانًا للذَّوْد عن حياض الجزائر، التّي أحبّها وأحبّته بفضل تواضعه وسخائه تجاه المحرومين واليتامى. قبل أسبوع، دعا الأغنياء والفقراء إلى قصر الجنينة بمناسبة ختان ابنه بالتّبنيّ. وزّع الهدايا والأموال على المحتّاجين، وكسا فقراء القوم و أطعمهم الدّجاج المشوي والأرز الملوّن بالزّعفران، واختلطت رائحة الحِنّاء ببخور طقوس تطهير عضو الذكورة. التّاريخ يعيد نفسه. استحضر أباه خير الدّين الذي تبنّاه منذ السّنّ الثّانية عشرة إثر أَسْره في إحدى عمليات القرصنة في سَردينيا. بعد مرور زهاء اثنتي و أربعين سنة، لم يعد يتذكّر ملامح والديه الحقيقييّن و عائلته الإيطالية.
– لقد كلّفني الباشا خير الدّين منذ سبع سنوات بحماية مدينة الجزائر. ولم يبحر إلى سطنبول إلّا بعد تيّقنه من أمانة خليفته و جسارتكم. ولكن كفاكم من التّنبؤات والتأويلات. كرلوس لا يخيفني. ففي معركة بروزة، أسطولهم بقيادة الأميرال أندريا دُوريا Doria Andrea كان ثلاثة أضعاف أسطول الباشا خير الدّين. و في النّهاية انتصرنا عليهم. أندريا دُوريا انسحب من المعركة خلسةً بعد إطفائه فوانيس قوادسه الجّريحة. ماذا تقول يا رمضان بلكباشي؟
– عددنا ضئيل مقارنة بترسانة كارلوس. أقترح أن نوفد في الحال رسلًا إلى القبائل الموالية لنا لدعمنا في عجالة.
– لديك رؤية نيّرة. اختَرْ أسرع الفرسان و ابعثْ كلّ واحد إلى وجهته لطلب المساعدة من شجعان هذا البلد.
ابتعد حسن آغا بقامته المتوسطة إلى النّافذة البحرية. وعندما التفت إلى الجمع الحربي، قال قائد البحرية الجزائرية الريّس حَيْدَرَة :
-أنا واثق بأنّ قائدنا الفذّ خير الدّين سيقود أسطولًا كبيرًا عند سماعه بهذه الغارة الصّليبيّة.
– أو بالأحرى غَلْيُوطَة واحدة فقط، مازحهم حسن آغا، لتهنئتنا على هزم كارلوس الّذي لا تغيب عنه شمس الغرور!
ارتطمت موجة ضحك على شفاه الحضور للتّخفيف من حدّة القلق السّائد مع اقتراب أسطول الإمبراطور شارلكان من ذقن بني مزغنّة.
كحّ حسن آغا، فعمّ الصمت فجأةً بين قادة الجيش الإنكشاري و ريّاس البحر وأعيان المدينة وأئمتها:
– ليست المرة الأولى التي تتعرّض إليها الجزائر إلى العدوان المسيحيّ. في الماضي القريب كانت القصبة محاطة بأسوار متواضعة في عهد بابا عرّوج وخير الدّين، ولكن هذا لم يمنع قائدينا العظيمين من دحر دابر الغارات المسيحيّة. يد الله حمت مدينتنا ونكّلت بمساعي المسيحيّين ومكائدهم، وأرجعتهم إلى بلدانهم مرهقين بسوط المذلّة ووشاح العار. ونفس اليد القهّارة ستنصرنا على كارلوس. الله الذي نعبده بإيمان قوي لن يرضى أن يهين النّصارى الشّعب الذي يحبّه. اعلموا يا سكّان الجزائر أنّ الجِّهاد واجب عليكم. ترفّعوا عن هذه الدّنيا الفانية، و قدّموا دمائكم قرابينَ لإعلاء راية الإسلام. لا تهابوا كثرة عددهم وعدّتهم. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. كما ترون، الله دائما في عون الّذين هم ثابتون على صراطه المستقيم. لكم الخيار: النّصر أو الشّهادة. كلّنا سنموت يومًا ما. ولكن ما أسعد أن يموت الفرد والسّلاح المخضّب بدمه في يده من أجل الإسلام، فهو أعلى درجة عند الله من الّذي يهلكه الكِبر أو المرض. نبيّنا محمّد صلى الله عليه و سلم قال:” إنّ أبواب الجنّة تحت ظِلال السّيوف”.

يا رفاقي، هذه هي السّعادة الأبديّة التّي تتشوّق إليها أرواحنا الزّكية. اللهُ جرّ النّصارى إلى أراضينا كي تذوقوا حلاوة الشّهادة وتحظوا بالحُور العِين و نعيم الفردوس. لنوحّد صفوفنا و نضع خلافاتنا جانبًا. لقد استطعنا بفضل الله تحطيم كلّ الحملات البحريّة المسيحيّة. ثِقوا في أنفسكم، فنحن أمام نفس العدوّ الّذي تعوّدنا على قهره. أنا أعلم الصّعاب التّي يجب أن نتخطاها سَوِيًّا لصون شرفنا و ديننا. لو نتحلى بالنّخوة و الصّبر من هذه اللّحظة، سنخيّب آمال جيش كارلوس. أنا على يقين بأنّ قائدنا خير الدّين سيبحر بنفسه على رأس أسطول كبير لمساعدتنا في محنتنا هذه التّي ابتلانا الله بها لجسّ نبض إيماننا و وفائنا لدّين الحقّ. لنلقّن كارلوس درسًا في المقاومة لن ينساه ما علا ذقنه على رقبته.
تأثّر الحاج محمد أياباشي كثيرا بخطاب رفع الهّمة الّذي أدلى به حسن آغا بالتركيّة والّذي تُرجم للحضور. كان الحاج محمد أياباشي رفيق الدّرب لبابا عرّوج إبّان السّنوات الأولى لـ “أُوجَاقْ” الجزائر.

وأثناء محاولة تحرير بجاية عام 1514، أُصيب بابا عرّوج بقذيفة حديدية أطلقتها مدافع حامية الإسبان، و كان أول من آزره: مزّق قماش بزّته الزّرقاء للفّه على ذراعه التّي انهمرت نزيفًا مع كل الآلام الحادّة التي رافقت ذلك الجّرح البّليغ، قبل أن تُبتر ذراعه للنّجاة من الموت. ولكنّ تلك العاهة لم تمنعه من مواصلة زرع الرّعب في سواحل إسبانيا و إيطاليا. اشتمّ الحاج محمد أياباشي رائحة بابا عرّوج في روح حسن آغا رغم أصوله الإيطالية. الشّهامة وصدق القول والفعل للدّفاع عن مدينة سيدي عبد الرّحمن.
– سيندم كارلوس على فعلته، صاح الريّس حيدرة. سنقطّع المعتّدين إربًا إربًا.
شعر حسن آغا بالارتياح لروح الاستعداد لدى رعيته. يعلم جيدًا أهمية المعنويات المرتفعة قبل خوض المعارك الهالكة: يُهزم المرء ويُهان أو يَنتصر فيُكّرم و يخلده التّاريخ. أمر حسن لآغا شيخ المدينة بنشر الرّجال المتطوّعين فوق أسوار القصبة العالية وقرع الطبول وإعلاء الرّايات الخضراء والحمراء والصفراء التى تحمل أهلّة فضّيّة. كما ألحّ بايلار باي إيالة الجزائر على تدعيم “الطُوبْجِيَّة”، أو رجال المدفعية، بالقذائف و المُؤن. أُوكلت للحاج محمد أياباشي قيادة الدّفاع من جهة باب عزّون. يوسف أودباشي وآرسلان بلكباشي وصفر بلكباشي أُختيروا لتولِّي المهمّة بباب الوادي. الريّس كشوك علي و الريّس حيْدرة وُجِّهَا إلى باب البحر.

أمّا حسن آغا فقرّر أن يتمركّز لاحقًا في برج باب عزّون المشرف على خليج الجزائر، رفقة الحاج بكير أياباشي و الحاج بشير أياباشي واليولداش وجماعة الموريسكيّين. كان الموريسكيّون أكثر سكّان القصبة تحمسًا للانتقام من أصحاب محاكم التّفتيش المقدّسة في أراغون وقشتّالة التّي منعتهم من الوضوء والصّلاة والتّحدث بالعربيّة والختان وتعدد الزوجات وارتداء ألبستهم التّقليدية واستخدام الحنّاء وتزيّن النّساء، قبل تهجيرهم القسري بعد نحو ثمانية قرون من التّواجد والتّلاحم والتسامح الدّيني والإبداع الحضاري في الأندلس، التّي ينعت فوق تربة أضحت من الماضي الجّميل والمؤلم. كان مرسوم التّنصير الّذي صُدِرَ في 12 شبّاط 1502 قاسيًا إلى أبعد الحدود، إذ سَلب الموريسكيّين دينهم الإسلامي وطمسَ لغتهم وشوّه تاريخهم و جرّدهم من عاداتهم، وسدّت في وجوههم حتّى أبواب حمامّاتهم العربيّة. كانت الكنيسة تبعث القابلات لمنع قراءة الشّهادتين في آذان المولودين الجدد للموريسكيّات ولكي يتمّ تسميتهم بأسماء إسبانية. وفي شهر رمضان يصرّ القشتّاليون على عزم الموريسكيّين ليقاسموهم أكل لحم الخّنزير واحتساء الخمر قصد إحراجهم وكشف مدى تنّصرهم الحقيقّي لدى حرّاس محاكم التّحقيق والنّوايا الحسنة، حيث أُجبروا على ترك أبواب بيوتهم مفتوحة ليتمكّن للقشتّاليّين من التّجسّس عليهم صباحَ مساءَ. نشوة النّصر في الصّباح ليست كسكرات الهزيمة و الظّلم في المساء. عندما فتح البّربريُّ طارق بن زيّاد الأندلس عام 711 على رأس جيش قوامه اثنا عشر ألف جندي بربريّ و عربيّ، كان البلد يغطّ في جنح الظّلام و التّخلف قبل أن ينيره العرب ببصماتهم في الطّب والكيمياء والفلك والهندسة المعمارية و الصّناعة الورقية و الرّيّ والملّاحة والفنون والآداب و الموسيقى. وصف القائد موسى بن نصير الأندلس في رسالة إلى الأمير الأموي بقوله : “شاميّة في طيبها وهوائها، يمنيّة في اعتدالها واستوائها، هنديّة في عطرها و ذكائها، أهوازيّة في عظم جباياتها، صينيّة في معادن جواهرها، عدنيّة في منافع سواحلها”.
هذه السّواحل شهدت أحداثًا متناقضة، حيث شكّلت على مرّ القرون نقاط ولوج الحضارة الإسلاميّة إلى الأندلس، فتعايشت الدّيانات السّماويّة الثلّاث في سلام إلى حدّ المصاهرة، قبل أن تشهد طرد المسلمين واليهود على دفعات إثر بدء تشغيل آلة حرب الاسترداد لتقليص نفوذهم إلى العدم. تلك السّواحل ما فتئ ريّاس البحر الجزائريّين يرهبون قاطنيها خلال فصلي الرّبيع والصّيف. وها هو الإمبراطور شارلكان، المدعو أيضا كَارْلُوسْ كِنْتُو، ينطلق من نفس السّواحل مترأسًا أسطوله الهائل، متحدّيًّا فصل الخريف المتقلّب بهدف تأديب عاصمة القراصنة، كما كان يتصوّره بالهيّن عليه.

الروائي بلقاسم مغزوشن

 

الإشتراك
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

0
يرجى التعليق.x
()
x